فصل: سورة النحل

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الخازن المسمى بـ «لباب التأويل في معاني التنزيل» ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏89- 95‏]‏

‏{‏وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ ‏(‏89‏)‏ كَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ ‏(‏90‏)‏ الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآَنَ عِضِينَ ‏(‏91‏)‏ فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ‏(‏92‏)‏ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ ‏(‏93‏)‏ فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ ‏(‏94‏)‏ إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ ‏(‏95‏)‏‏}‏

‏{‏وقل‏}‏ أي وقل لهم يا محمد ‏{‏إني أنا النذير المبين‏}‏ لما أمر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم بالزهد في الدنيا، والتواضع للمؤمنين أمره بتبليغ ما أرسل به إليهم، والنذارة تبليغ مع تخويف والمعنى‏:‏ إني أنا النذير بالعقاب لمن عصاني المبين النذارة ‏{‏كما أنزلنا المقتسمين‏}‏ يعني أنذركم عذاباً كعذاب أنزلناه بالمقتسمين، قال ابن عباس‏:‏ أراد بالمقتسمين اليهود والنصارى‏.‏ وهو قول الحسن ومجاهد وقتادة‏:‏ سموا بذلك لأنهم آمنوا ببعض القرآن وكفروا ببعضه، فما وافق كتبهم آمنوا به وما خالف كتبهم كفروا به، وقال عكرمة‏:‏ إنهم اقتسموا سور القرآن فقال واحد منهم هذه السورة لي وقال‏:‏ آخر هذه السورة لي، وإنما فعلوا ذلك استهزاء به، وقال مجاهد‏:‏ إنهم اقتسموا كتبهم فآمنوا ببعضها وكفروا ببعضها، وكفر آخرون منهم بما آمن به غيرهم‏.‏ وقال قتادة وابن السائب‏:‏ أراد بالمقتسمين كفار قريش سموا بذلك لأن أقوالهم تقسمت في القرآن‏.‏ فقال بعضهم‏:‏ إنه سحر وزعم بعضهم أنه كهانة وزعم بعضهم إنه أساطير الأولين وقال ابن السائب‏:‏ سموا بالمقتسمين لأنهم اقتسموا عقاب مكة وطرقها، وذلك أن الوليد بن المغيرة بعث رهطاً من أهل مكة‏.‏ قيل ستة عشر‏.‏ وقيل‏:‏ أربعين‏.‏ فقال لهم‏:‏ انطلقوا فتفرقوا على عقاب مكة وطرقها حيث يمر بكم أهل الموسم، فإذا سألوكم عن محمد فليقل بعضكم إنه كاهن وليقل بعضكم إنه شاعر، وليقل بعضكم إنه ساحر فإذا جاؤوا إلي صدقتكم فذهبوا وقعدوا على عقاب مكة وطرقها يقولون لمن مر بهم من حجاج العرب‏:‏ لا تغتروا بهذا الخارج الذي يدعي النبوة منا فإنه مجنون كاهن، وشاعر‏.‏ وقعد الوليد بن المغيرة على باب المسجد الحرام فإذا جاؤوا وسألوه عما قال‏:‏ أولئك المقتسمون‏.‏ قال‏:‏ صدقوا‏.‏ وقوله سبحانه وتعالى‏:‏ ‏{‏الذين جعلوا القرآن عضين‏}‏ ‏(‏خ‏)‏ عن ابن عباس في قوله تعالى الذين جعلوا القرآن عضين‏.‏ قال‏:‏ هم اليهود والنصارى جزؤوه أجزاء آمنوا ببعض وكفروا ببعض، قيل‏:‏ هو جمع عضة من قولهم عضيت الشيء إذا فرقته، وجعلته أجزاء وذلك لأنهم جعلوا القرآن أجزاء مفرقة‏.‏ فقال بعضهم‏:‏ هو سحر‏.‏ وقال بعضهم‏:‏ هو كهانة‏.‏ وقال بعضهم‏:‏ هو أساطير الأولين‏.‏ وقيل‏:‏ هو جمع عضة‏.‏ وهوالكذب والبهتان وقيل‏:‏ المراد به العضة وهو السحر يعني أنهم جعلوا القرآن عضين ‏{‏عما كانوا يعملون‏}‏ يعني عما كانوا يقولونه في القرآن‏.‏ وقيل‏:‏ عما كانوا يعملون من الكفر والمعاصي‏.‏ وقيل‏:‏ يرجع الضمير في لنسألنهم إلى جميع الخلق المؤمن والكافر لأن اللفظ عام فحمله على العموم أولى قال جماعة من أهل العلم عن لا إله إلا الله عن أنس عن النبي صلى الله عليه سلم في قوله‏:‏ لنسألنهم أجمعين عما كانوا يعملون قال‏:‏

«عن قول لا إله إلا الله» أخرجه الترمذي‏.‏ وقال‏:‏ حديث غريب وقال أبو العالية‏:‏ يسأل العباد عن خلتين عما كانوا يعبدون، وماذا أجابوا المرسلين‏.‏ فإن قلت‏:‏ كيف الجمع بين قوله لنسألنهم أجمعين وبين قوله ‏{‏فيومئذ لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جان‏}‏ قلت‏:‏ قال ابن عباس‏:‏ لا يسألهم هل عملتم لأنه أعلم به منهم، ولكن يقول لم عملتم كذا واعتمدوه قطرب فقال‏:‏ السؤال ضربان سؤال استعلام وسؤال توبيخ فقال تعالى ‏{‏فيومئذ لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جان‏}‏ يعني سؤال استعلام وقوله ‏{‏لنسألنهم أجمعين‏}‏ سؤال توبيخ وتقريع وجواب آخر، وهو يروى عن ابن عباس أيضاً أنه قال في الآيتين‏:‏ أن يوم القيامة يوم طويل فيه مواقف فيسألون في بعض المواقف ولا يسألون في بعضها نظيره قوله سبحانه وتعالى ‏{‏هذا يوم لا ينطقون‏}‏ وقال تعالى في آية أخرى ‏{‏ثم إنكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون‏}‏ قوله سبحانه وتعالى ‏{‏فاصدع بما تؤمر‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ أظهر‏.‏ ويروى عنه أمضه‏.‏ وقال الضحاك‏:‏ أعلم وأصل الصدع الشق والفرق أي أفرق بالقرآن بين الحق الباطل أمر النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الآية بإظهار الدعوة وتبليغ الرسالة إلى من أرسل اليهم قال عبد الله بن عبيدة‏.‏ ما زال النبي صلى الله عليه وسلم مستخفياً حتى نزلت هذه الآية، فخرج هو وأصحابه ‏{‏وأعرض عن المشركين‏}‏ أي اكفف عنهم ولا تلتفت إلى لومهم على إظهار دينك، وتبليغ رسالة ربك وقيل أعرض عن الاهتمام باستهزائهم، وهو قوله سبحانه وتعالى ‏{‏إنا كفيناك المستهزئين‏}‏ أكثر المفسرين على أن هذا الإعراض منسوخ بآية القتال‏.‏ وقال بعضهم‏:‏ ما للنسخ وجه لأن معنى الإعراض ترك المبالاة بهم، والالتفات إليهم، فلا يكون منسوخاً، وقوله تعالى إنا كفيناك المستهزئين يقول الله تعالى عز وجل لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم فاصدع بما أمرتك به ولا تخف أحداً غيري فإني أنا كافيك، وحافظك ممن عاداك فإنا كفيناك المستهزئين وكانوا خمسة نفر من رؤساء كفار قريش، كانوا يستهزئون بالنبي صلى الله عليه وسلم وبالقرآن وهم‏:‏ الوليد بن المغيرة المخزومي وكان رأسهم، والعاص بن وائل السهمي، والأسود بن المطلب بن الحارث بن أسد بن عبدالعزى بن زمعة، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد دعا عليه فقال‏:‏ اللهم أعم بصره وأثكله بولده‏.‏ والأسود بن عبد يغوث بن وهب بن عبد مناف بن زهرة، والحارث بن قيس ابن الطلاطلة كذا ذكره البغوي‏.‏ وقال ابن الجوزي‏:‏ الحارث بن قيس ابن عيطلة وقال الزهري‏:‏ عيطلة أمة وقيس أبوه فهو منسوب إلى أبيه وأمة قال المفسرون‏:‏ أتى جبريل عليه السلام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم والمستهزئون يطوفون بالبيت فقام جبريل، وقام رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جنبه فمر به الوليد بن المغيرة فقال جبريل‏:‏ يا محمد كيف تجد هذا قال بئس عبد الله فقال‏:‏ قد كفيته وأومأ إلى ساق الوليد فمرّ الوليد برجل من خزاعة نبال بريش نبلاً له، وعليه برد يماني وهو يجر إزاره فتعلقت شظية من النبل بإزار الوليد، فمنعه الكبر أن يطأطئ رأسه فينزعها وجعلت تضربه في ساقه، فخدشته فمرض فمات، ومر بهما العاص بن وائل السهمي فقال جبريل‏:‏ كيف تجد هذا يا محمد‏؟‏ فقال‏:‏ بئس عبد الله، فأشار جبريل إلى أخمص قدمه وقال‏:‏ قد كفيته‏.‏

فخرج العاص على راحلة يتنزه، ومعه ابناه فنزل شعباً من تلك الشعاب فوطئ شبرقة فدخل منها شوكة في أخمص رجله، فقال‏:‏ لدغت لدغت فطلبوا فلم يجدوا شيئاً وانتفخت رجله حتى صارت مثل عنق البعير، فمات مكانه‏.‏ ومر بهما الأسود بن المطلب فقال جبريل‏:‏ كيف تجد هذا يا محمد‏؟‏ فقال‏:‏ عبد سوء فأشار جبريل بيده إلى عينيه‏.‏ وقال‏:‏ قد كفيته فعمي‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ رماه جبريل بورقة خضراء فألهب بصره ووجعت عينه فجعل يضرب برأسه الجدار، حتى هلك وفي رواية الكلبي قال‏:‏ أتاه جبريل وهو قاعد في أصل شجرة ومعه غلام له وفي رواية فجعل ينطح رأسه في الشجرة ويضرب وجهه بالشوك فاستغاث بغلامه، فقال له غلامه‏:‏ ما أرى أحداً يصنع بك شيئاً غيرك فمات، وهو يقول قتلني محمد ومر بهما الأسود ابن عبد يغوث فقال جبريل‏:‏ كيف تجد هذا يا محمد‏؟‏ فقال‏:‏ بئس عبد الله على أنه خالي‏.‏ فقال جبريل‏:‏ قد كفيته وأشار إلى بطنه فاستسقى بطنه فمات‏.‏ وفي رواية الكلبي أنه خرج من أهله‏.‏ فأصابه سموم فاسود وجهه حتى صار حبشياً، فأتى أهله لم يعرفوه وأغلقوه دونه الباب فمات، وهو يقول‏:‏ قتلني رب محمد‏.‏ ومر بهما الحارث بن قيس فقال جبريل‏:‏ كيف تجد هذا يا محمد‏؟‏ فقال‏:‏ عبد سوء فأومأ جبريل إلى رأسه‏.‏ وقال قد كفيته فامتخط قيحاً فقلته‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ إنه أكل حوتاً مالحاً فأصابه العطش فلم يزل يشرب الماء حتى أنقد بطنه فمات‏.‏ فذلك قوله تعالى ‏{‏إنا كفيناك المستهزئين‏}‏ يعني بك وبالقرآن‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏96- 99‏]‏

‏{‏الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ ‏(‏96‏)‏ وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ ‏(‏97‏)‏ فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ ‏(‏98‏)‏ وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ ‏(‏99‏)‏‏}‏

‏{‏الذين يجعلون مع الله إلهاً آخر فسوف يعلمون‏}‏ يعني إذا نزل بهم العذاب ففيه وعيد وتهديد‏.‏ قوله سبحانه وتعالى ‏{‏ولقد نعلم أنك يضيق صدرك بما يقولون‏}‏ يعني بسبب ما يقولون، وهو ما كانوا يسمعونه من الاستهزاء به، والقول الفاحش والجبلة البشرية تأبى ذلك فيحصل عند سماع ذلك ضيق الصدر، فعند ذلك أمره بالتسبيح والعبادة وهو قوله ‏{‏فسبح بحمد ربك‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ فصلِّ بأمر ربك ‏{‏وكن من الساجدين‏}‏ يعني من المتواضعين لله، وقال الضحاك فسبح بحمد ربك قل سبحان الله وبحمده وكن من الساجدين يعني من المصلين روي أن النبي صلى الله عليه وسلم، كان إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة، قال بعض العارفين من المحققين‏:‏ أن السبب في زوال الحزن عن القلب، إذا أتى العبد بهذه العبادات أنه يتنور باطنه ويشرق قلبه، وينفسح وينشرح صدره فعند ذلك يعرف قدر الدنيا وحقارتها فلا يلتفت إليها، ولا يتأسف على فواتها فيزول الهم والغم والحزن عن قلبه‏.‏ وقال بعض العلماء‏:‏ إذا نزل بالعبد مكروه ففزع إلى الصلاة فكأنه يقول‏:‏ يارب إنما يجب عليّ عبادتك سواء أعطيتني ما أحب أو كفيتني ما أكره، فأنا عبدك وبين يديك فافعل بي ماتشاء‏.‏ قوله تعالى ‏{‏واعبد ربك حتى يأتيك اليقين‏}‏ يعني الموت وانت في عبادة ربك، وهذا مثل قوله تعالى في سورة مريم ‏{‏وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حياً‏}‏ روى البغوي بسنده عن جبير بن نفير قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه سلم «ما أوحى الله إليّ أن أجمع المال وأكون من التاجرين، ولكن أوحى إليّ أن سبح بحمد ربك وكن من الساجدين واعبد ربك حتى يأتيك اليقين» وعن عمر قال‏:‏ نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مصعب بن عمير مقبلاً وعليه إهاب كبش قد تنطق به فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «انظروا إلى هذا الذي نور الله قلبه لقد رأيته بين أبويه يغذيانه بأطيب الطعام والشراب ولقد رأيت عليه حلة شراها، أو قال‏:‏ شريت له بمائتي درهم فدعاه حب الله، وحب رسوله إلى ما ترون» ذكره بغير سند والله أعلم بمراده وأسرار كتابه‏.‏

سورة النحل

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 2‏]‏

‏{‏أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ‏(‏1‏)‏ يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ ‏(‏2‏)‏‏}‏

قوله سبحانه وتعالى‏:‏ ‏{‏أتى أمر الله‏}‏ يعني جاء ودنا وقرب أمر الله تقول العرب‏:‏ أتاك الأمر وهو متوقع المجيء، بعدما أتى، ومعنى الآية أتى أمر الله وعداً ‏{‏فلا تستعجلوه‏}‏ يعني وقوعاً بالمراد به مجيء القيامة‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ لما نزل قوله سبحانه وتعالى ‏{‏اقتربت الساعة وانشق القمر‏}‏ قال الكفار‏:‏ بعضهم لبعض إن هذا الرجل يزعم أن القيامة قد قربت فامسكوا عن بعض ما كنتم تعملون حتى ننظر ما هو كائن، فلما رأوا أنه لا ينزل شيء قالوا‏:‏ ما نرى شيئاً فنزل قوله تعالى ‏{‏اقترب للناس حسابهم‏}‏ فأشفقوا فلما امتدت الأيام، قالوا‏:‏ يا محمد ما نرى شيئاً مما تخوفنا به فنزل ‏{‏أتى أمر الله‏}‏ فوثب النبي صلى الله عليه وسلم ورفع الناس رؤوسهم، وظنوا أنها قد أتت حقيقة فنزل ‏{‏فلا تستعجلوه‏}‏ فاطمأنوا، والاستعجال طلب مجيء الشيء قبل وقته ولما نزلت هذه الآية قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ «بعثت أنا والساعة كهاتين ويشير بأصبعيه يمدهما» أخرجاه في الصحيحين من حديث سهل بن سعد ‏(‏ق‏)‏ عن أنس قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه سلم‏:‏ «بعثت أنا والساعة كهاتين كفضل إحداهما على الأخرى، وضم السبابة إلى الوسطى» وفي رواية «بعثت في نفس الساعة فسبقتها كفضل هذه على الأخرى» قال ابن عباس‏:‏ كان مبعث النبي صلى الله عليه وسلم من أشراط الساعة ولما مر جبريل بأهل السموات مبعوثاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم قالوا‏:‏ الله أكبر قامت الساعة قال قوم‏:‏ المراد بالأمر هنا عقوبة المكذبين وهو العذاب بالقتل بالسيف وذلك أن النضر بن الحرث قال‏:‏ اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك، فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم‏.‏ فاستعجل العذاب فنزلت هذه الآية، وقلت النضر يوم بدر صبراً ‏{‏سبحانه وتعالى عما يشركون‏}‏ يعني تنزه الله وتعاظم بالأوصاف الحميدة عما يصفه به المشركون‏.‏ قوله سبحانه وتعالى‏:‏ ‏{‏ينزل الملائكة والروح‏}‏ يعني بالوحي ‏{‏من أمره‏}‏ وإنما سمي الأمر روحاً لأنه تحيا القلوب من موت الجهالات وقال عطاء‏:‏ بالنبوة‏.‏ وقال قتادة‏:‏ بالرحمة‏.‏ وقيل‏:‏ الروح هون جبريل والباء بمعنى مع يعني ينزل مع الروح وهون جبريل ‏{‏على من يشاء من عباده‏}‏ يعني على من يصطفيه من عباده للنبوة، والرسالة وتبليغ الوحي إلى الخلق ‏{‏أن أنذروا‏}‏ يعني بأن اعلموا ‏{‏أنه لا إله إلا أنا فاتقون‏}‏ أي فخافون‏.‏ وقيل‏:‏ معناه مروا بقول لا إله إلا الله منذرين يعني مخوفين بالقرآن‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏3- 12‏]‏

‏{‏خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ‏(‏3‏)‏ خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ ‏(‏4‏)‏ وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ ‏(‏5‏)‏ وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ ‏(‏6‏)‏ وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ ‏(‏7‏)‏ وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ ‏(‏8‏)‏ وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ ‏(‏9‏)‏ هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ ‏(‏10‏)‏ يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ‏(‏11‏)‏ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ‏(‏12‏)‏‏}‏

‏{‏خلق السموات والأرض بالحق تعالى عما يشركون‏}‏ تقدم تفسيره ‏{‏خلق الإنسان من نطفة فاذا هو خصيم مبين‏}‏ يعني أنه جدل بالباطل بين الخصومة نزلت في أبيّ بن خلف الجمحي، وكان ينكر البعث فجاء بعظم رميم إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ تزعم أن الله يحيي هذا بعدما رم فنزلت فيه هذه الآية، ونزل فيه أيضاً قوله تعالى ‏{‏قال من يحيي العظام وهي رميم‏}‏ والصحيح أن الآية عامة في كل ما يقع من الخصومة في الدنيا ويوم القيامة، وحملها على العموم أولى، وفيها بيان القدرة وأن الله خلق الإنسان من نطفة قذرة فصار جباراً كثيراً لخصومة، وفيه كشف قبيح ما فعله الكفار من جحدهم نعم الله تعالى مع ظهورها عليهم‏.‏ قوله عز وجل ‏{‏والأنعام خلقها‏}‏ لما ذكر الله سبحانه وتعالى أنه خلق السموات والأرض، ثم أتبعه بذكر خلق الإنسان، ذكر بعده ما ينتفع به في سائر ضروراته‏.‏ ولما كان أعظم ضرورات الإنسان إلى الأكل واللباس اللذين يقوم بهما بدن الإنسان بدأ بذكر الحيوان المنتفع به في ذلك، وهو الأنعام‏.‏ فقال تعالى ‏{‏والأنعام خلقها‏}‏ وهي الإبل والبقر والغنم‏.‏ قال الواحدي‏:‏ تم الكلام عند قوله والأنعام خلقها‏.‏ ثم ابتدأ فقال تعالى ‏{‏لكم فيها دفء‏}‏ قال‏:‏ ويجوز أيضاً أن يكون تمام الكلام عند قوله لكم ثم ابتدأ فقال تعالى‏:‏ فيها دفء‏.‏ قال صاحب النظم أحسن الوجهين أن يكون الوقف عند قوله خلقها ثم يبتدأ بقوله لكم فيها دفء، والدليل عليه أنه عطف عليه قوله، ولكم فيها جمال والتقدير لكم فيها دفء ولكم فيها جمال‏.‏ ولما كانت منافع هذه الأنعام منها ضرورية، ومنها غير ضرورية، بدأ الله سبحانه وتعالى بذكر المنافع الضرورية، فقال تعالى‏:‏ لكم فيها دفء وهو ما يُستدفأ به من اللباس والأكسية ونحوها، المتخذة من الأصواف والأوبار والأشعار الحاصلة من النعم ‏{‏ومنافع‏}‏ يعني النسل والدر والركوب والحمل عليها وسائر ما ينتفع به من الأنعام ‏{‏ومنها تأكلون‏}‏ يعني من لحومها‏.‏ فإن قلت‏:‏ قوله تعالى ‏{‏ومنها تأكلون‏}‏ يفيد الحصر لأن تقديم الظرف مؤذن بالاختصاص، وقد يؤكل من غيرها‏.‏ قلت‏:‏ الأكل من هذه الأنعام هو الذي يعتمده الناس في معايشهم وأما الأكل من غيرها كالدجاج والبط والإوز وصيد البر والبحر، فغير معتد به في الأغلب‏:‏ وأكله يجري مجرى التفكه به فخرج ومنها تأكلون مخرج الأغلب في الأكل من هذه الأنعام‏.‏ فإن قلت‏:‏ منفعة الأكل مقدمة على منفعة اللباس فلم أخر منفعة الأكل وقدم منفعة اللباس‏؟‏ قلت‏:‏ منفعة اللباس أكثر وأعظم من منفعة الأكل فلهذا قدم على الأكل‏.‏ وقوله سبحانه وتعالى ‏{‏ولكم فيها‏}‏ أي في الأنعام ‏{‏جمال‏}‏ أي زينة ‏{‏حين تريحون وحين تسرحون‏}‏ الإراحة رد الإبل بالعشي إلى مراحلها حيث تأوي إليه بالليل‏.‏

وقال‏:‏ سرح القوم إبلهم تسريحاً إذا أخرجوها بالغداة إلى المرعى‏.‏ قال أهل اللغة‏:‏ وأكثر ما تكون هذه الراحة أيام الربيع إذا سقط الغيث، ونبت العشب والكلأ وخرجت العرب للنجعة، وأحسن ما تكون النعم في ذلك الوقت فمن الله سبحانه وتعالى بالتجميل بها فيه كما من الانتفاع بها لأنه من أغراض أصحاب المواشي بل هو من معظمها لأن الرعاة إذا سرحوا النعم بالغداة إلى المرعى، وروحوها بالعشي إلى الأفنية والبيوت يسمع للإبل رغاء وللشاء ثغاء يجاوب بعضها بعضاً، فعند ذلك يفرح أربابها بها وتتجمل بها الأفنية والبيوت، ويعظم وقعها عند الناس‏.‏ فإن قلت‏:‏ لم قدمت الإراحة على التسريح‏؟‏ قلت‏:‏ لأن الجمال في الإراحة وهو رجوعها إلى البيوت أكثر منها وقت التسريح لأن النعم تقبل من المرعى ملأى البطون حافلة الضروع، فيفرح أهلها بها بخلاف تسريحها إلى المرعى فإنها تخرج جائعة البطون ضامرة الضروع من اللبن، ثم تأخذ في التفرق والانتشار للرعي في البرية فثبت بهذا البيان أن التجمل في الإراحة، أكثر منه في التسريح فوجب تقديمه‏.‏ وقوله سبحانه وتعالى ‏{‏وتحمل أثقالكم‏}‏ الأثقال جمع ثقل وهو متاع السفر وما يحتاج إليه من آلات السفر ‏{‏إلى بلد‏}‏ يعني غير بلدكم قال ابن عباس‏:‏ يريد من مكة إلى اليمن، وإلى الشام وإنما قال ابن عباس‏:‏ هذا القول لأنه خطاب لأهل مكة واكثر تجارتهم وأسفارهم إلى الشام واليمن وحمله على العموم أولى لأنه خطاب عام فدخول الكافة فيه أولى من تخصيصه ببعض المخاطبين ‏{‏لم تكونوا بالغيه‏}‏ يعني بالغي ذلك البلد الذي تقصدونه ‏{‏إلا بشق الأنفس‏}‏ يعني بالمشقة والجهد والعناء والتعب والشق نصف الشيء، والمعنى على هذا لم تكونوا بالغيه إلا بنقصان قوة، النفس وذهاب نصفها ‏{‏إن ربكم لرؤوف رحيم‏}‏ يعني بخلقه حيث خلق لهم هذه المنافع‏.‏ قوله سبحانه وتعالى‏:‏ ‏{‏والخيل والبغال والحمير لتركبوها‏}‏ هذه الآية عطف على ما قبلها، والمعنى وخلق هذه الحيوانات لأجل أن تركبوها، والخيل اسم جنس لا واحد له من لفظه كالإبل والرهط والنساء ‏{‏وزينة‏}‏ يعني وجعلها زينة مع المنافع التي فيها‏.‏

فصل

احتج بهذه الآية من يرى تحريم لحوم الخيل، وهو قول ابن عباس وتلا هذه الآية وقال‏:‏ هذه للركوب وإليه ذهب الحكم ومالك وأبو حنيفة رحمهم الله، واستدلوا أيضاً بأن منفعة الأكل أعظم من منفعة الركوب فلما لم يذكره الله تعالى، علمنا تحريم أكله فلو كان أكل لحوم الخيل جائزاً لكان هذا المعنى أولى بالذكر، لأن الله سبحانه وتعالى خص الأنعام بالأكل حيث قال ومنها تأكلون وخص هذه بالركوب‏.‏ فقال‏:‏ لتركبوها فعلمنا أنها مخلوقة للركوب لا للأكل وذهب مجموعة من أهل العلم إلى إباحة لحوم الخيل، وهو قول الحسن وشريح وعطاء وسعيد بن جبير‏:‏ وإليه ذهب الإمام الشافعي رضي الله تعالى عنه وأحمد وإسحاق واحتجوا على إباحة لحوم الخيل لما روي عن أسماء بنت أبي بكر الصديق أنها قالت‏:‏ «نحرنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فرساً ونحن بالمدينة فأكلناه» أخرجه البخاري ومسلم ‏(‏ق‏)‏‏.‏

عن جابر «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن لحوم الخيل وحمر الوحش ونهى النبي عن الحمار الأهلي» هذه رواية البخاري ومسلم، وفي رواية أبي داود قال‏:‏ «ذبحنا يوم خيبر الخيل والبغال والحمير وكنا قد أصابتنا مخمصة فنهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البغال والحمير ولم ينهنا عن الخيل» وأجاب من أباح لحوم الخيل عن هذه الآية بأن ذكر الركوب والزينة، لا يدل على أن منفعتها مختصة بذلك، وإنما خص هاتان المنفعتان بالذكر لأنهما معظم المقصود، قالوا‏:‏ ولهذا سكت عن حمل الأثقال على الخيل مع قوله في الأنعام وتحمل أثقالكم، ولم يلزم من هذا التحريم حمل الأثقال على الخيل، وقال البغوي‏:‏ ليس المراد من الآية بيان التحليل والتحريم، بل المراد منها تعريف الله عباده نعمه، وتنبيههم على كمال قدرته وحكمته، والدليل الصحيح المعتمد عليه في إباحة لحوم الخيل أن السنة مبينة للكتاب ولما كان نص الآية يقتضي أن الخيل والبغال والحمير مخلوقة للركوب والزينة، وكان الأكل مسكوتاً عنه دار الأمر فيه على الإباحة والتحريم فوردت بإباحة لحوم الخيل وتحريم لحوم البغال والحمير، فأخذنا بها جمعاً بين النصين والله أعلم وقوله تعالى ‏{‏ويخلق ما لا تعلمون‏}‏ لما ذكر الله سبحانه وتعالى الحيوانات التي ينتفع بها الإنسان في جميع حالاته، وضرورياته على سبيل التفضيل، ذكر بعدها ما لا ينتفع به الإنسان الغالب على سبيل الإجمال لأن مخلوقات الله عز وجل في البر والبحر والسموات أكثر من أن تحصى أو يحيط بها عقل أحد أو فهمه، فلهذا ذكرها على الإجمال، وقال بعضهم‏:‏ ويخلق ما لا تعلمون يعني مما أعد الله لأهل الجنة في الجنة، ولأهل النار في النار مما لا عين رأت ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر وقال قتادة في قوله‏:‏ ويخلق ما لا تعلمون يعني السوس في النبات والدود في الفواكة‏.‏ قوله سبحانه وتعالى ‏{‏وعلى الله قصد السبيل‏}‏ القصد استقامة الطريق، يقال‏:‏ طريق قصد وقاصد إذا أداك إلى مطلوبك وفي الآية حذف تقديره وعلى الله بيان قصد السبيل، وهو بيان طريق الهدى من الضلالة وقيل‏:‏ معناه وعلى الله بيان طريق الحق بالآيات والبراهين ‏{‏ومنها جائر‏}‏ يعني ومن السبل سبيل جائر عن الاستقامة بل هو معوج فالقصد من السبيل هو دين الإسلام والجائر منها دين اليهودية والنصرانية وسائر ملل الكفر، وقال جابر بن عبد الله‏:‏ قصد السبيل بيان الشرائع والفرائض، وقال عبد الله بن المبارك وسهل بن عبد الله‏:‏ قصد السبيل السنة ومنها جائر الأهواء والبدع ‏{‏ولو شاء لهداكم أجمعين‏}‏ فيه دليل على أن الله تعالى ما شاء هداية الكفار، وما أراد منهم الإيمان لأن كلمة لو تفيد انتفاء الشيء لانتفاء غيره، فقوله ولو شاء هدايتكم لهداكم أجمعين وذلك يفيد أنه تعالى ما شاء هدايتهم فلا جرم ما هداهم‏.‏

قوله عز وجل ‏{‏وهو الذي أنزل من السماء ماء‏}‏ لما ذكر الله سبحانه وتعالى نعمته على عباده بخلق الحيوانات لأجل الانتفاع والزينة‏:‏ عقبه بذكر إنزال المطر من السماء، وهو من أعظم النعم على العباد فقال‏:‏ هو الذي أنزل من السماء‏.‏ يعني، والله الذي خلق جميع الأشياء هو الذي أنزل من السماء ماء يعني المطر ‏{‏لكم منه‏}‏ يعني من ذلك الماء ‏{‏شراب‏}‏ يعني تشربونه ‏{‏ومنه‏}‏ يعني ومن ذلك الماء ‏{‏شجر‏}‏ الشجر في اللغة ما له ساق من نبات الأرض، ونقل الواحدي عن أهل اللغة أنهم قالوا‏:‏ الشجر أصناف ما جل وعظم وهو الذي يبقى على الشتاء وما دق وهو صنفان أحدهما تبقى له أدوحة في الشتاء وينبت في الربيع ومنها ما لا يبقى له ساق في الشتاء كالبقول وقال أبو إسحاق‏:‏ كل ما ينبت على وجه الأرض فهو شجر وأنشد‏:‏

نطعمها اللحم إذا عز الشجر *** أراد أنهم يسقون الخيل اللبن إذا أجدبت الأرض، وقال ابن قتيبة‏:‏ في هذه الآية يعني الكلأ ومعنى الآية أنه ينبت بالماء الذي أنزل من السماء ما ترعى الراعية من ورق الشجر لأن الإبل ترعى كل الشجر ‏{‏فيه‏}‏ يعني في الشجر ‏{‏تسيمون‏}‏ يعني ترعون مواشيكم‏.‏ يقال‏:‏ أسمت السائمة إذا خليتها ترعى وسامت هي إذا رعت حيث شاءت ‏{‏ينبت لكم‏}‏ أي ينبت الله لكم وقرئ ينبت على التعظيم لكم ‏{‏به‏}‏ أي بذلك الماء ‏{‏الزرع والزيتون والنخيل والأعناب ومن كل الثمرات‏}‏ لما ذكر الله في الحيوان تفصيلاً وإجمالاً ذكر الثمار تفصيلاً وإجمالاً فبدأ بذكر الزرع وهو الحب الذي يقتات به كالحنطة والشعير وما أشبههما لأن به قوام بدن الإنسان، وثنى بذكر الزيتون لما فيه من الأدم والدهن والبركة، وثلث بذكر النخيل لأن ثمرتها غذاء وفاكهة، وختم بذكر الأعناب لأنها شبه النخلة في المنفعة من التفكة، والتعذية، ثم ذكر سائر الثمرات إجمالاً لينبه بذلك على عظيم قدرته، وجزيل نعمته على عباده ثم قال تعالى ‏{‏إن في ذلك‏}‏ يعني الذي ذكر من أنواع الثمار ‏{‏لآية‏}‏ يعني علامة دالة على قدرتنا ووحدانيتنا ‏{‏لقوم يتفكرون‏}‏ يعني فيما ذكر من دلائل قدرته ووحدانيته ‏{‏وسخر لكم الليل والنهار والشمس والقمر والنجوم‏}‏ تقدم تفسيره في سورة الأعراف ‏{‏مسخرات‏}‏ يعني مذللات مقهورات تحت قهره وإرادتهن وفيه رد على الفلاسفة والمنجمين لأنهم يعتقدون أن هذه النجوم هي الفعالة المتصرفة في العالم السفلي فأخبر الله تعالى أن هذه النجوم مسخرات في نفسها مذللات ‏{‏بأمره‏}‏ يعني بأمر ربها مقهورات تحت قهره يصرفها كيف يشاء، ويختار وأنها ليس لها تصرف في نفسها فضلاً عن غيرها، ولما ذكر الله سبحانه وتعالى أنه خلق هذه النجوم وجعلها مسخرات لمنافع عباده ختم هذه الآية بقوله ‏{‏إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون‏}‏ يعني أن كل من كان له عقل صحيح سليم علم أن الله سبحانه وتعالى، هو الفعال المختار وأن جميع الخلق تحت قدرته، وقهره وتسخيره لما أراده منهم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏13- 23‏]‏

‏{‏وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ ‏(‏13‏)‏ وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ‏(‏14‏)‏ وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ‏(‏15‏)‏ وَعَلَامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ ‏(‏16‏)‏ أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ ‏(‏17‏)‏ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏18‏)‏ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ ‏(‏19‏)‏ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ ‏(‏20‏)‏ أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ ‏(‏21‏)‏ إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ ‏(‏22‏)‏ لَا جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ ‏(‏23‏)‏‏}‏

‏{‏وما ذرأ لكم في الأرض‏}‏ يعني وما خلق لكم في الأرض، وسخر لأجلكم من الدواب والأنعام والأشجار والثمار ‏{‏مختلفاً ألوانه‏}‏ يعني في الخلقة والهيئة والكيفية واختلاف ألوان المخلوقات مع كثرتها، حتى لا يشبه بعضها بعضاً من كل الوجوه، فيه دليل قاطع على كمال قدرة الله ولذلك ختم هذه الآية بقوله تعالى ‏{‏وهو الذي سخر لكم البحر‏}‏ لما ذكر الله سبحانه وتعالى الدلائل الدالة على قدرته، ووحدانيته من خلق السموات والأرض، وخلق الإنسان من نطفة وخلق سائر الحيوان والنبات وتسخير الشمس والقمر والنجوم وغير ذلك من آثار قدرته، وعجائب صنعته وذكر إنعامه في ذلك على عباده، ذكر بعد ذلك إنعامه على عباده بتسخير البحر لهم نعمة من الله عليهم، ومعنى تسخير الله البحر لعباده جعله بحيث يتمكن الناس من الانتفاع به‏.‏ فقال تعالى‏:‏ وهو الذي سخر البحر ‏{‏لتأكلوا منه لحماً طرياً‏}‏ فبدأ بذكر الأكل لأنه أعظم المقصود، لأن به قوام البدن وفي ذكر الطري مزيد فائدة دالة على كمال قدرة الله تعالى، وذلك أن السمك لون كان كله مالحاً لما عرف به من قدرة الله تعالى، ما يعرف بالطري لأنه لما لما خرج من البحر الملح الزعاق، الحيوان الطري الذي لحمه في غاية العذوبة علم أنه إنما حدث بقدرة الله، وخلقه لا بحسب الطبع وعلم بذلك أن الله قادر على إخراج الضد من الضد‏.‏ المنفعة الثانية قوله تعالى ‏{‏وتستخرجوا منه حلية تلبسونها‏}‏ يعني اللؤلؤ والمرجان، كما قال تعالى‏:‏ يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان والمراد بلبسهم لبس نسائهم لأن زينة النساء بالحلي، وإنما هو لأجل الرجال فكان ذلك زينة لهم‏.‏ المنفعة الثالثة قوله تعالى ‏{‏وترى الفلك‏}‏ يعني السفن ‏{‏مواخر فيه‏}‏ يعني جواري فيه قال قتادة‏:‏ مقبلة ومدبرة وذلك أنك ترى سفينتين أحداهما تقبل والأخرى تدبر تجريان بريح واحدة وأصل المخر في اللغة الشق يقال‏:‏ مخرت السفينة مخراً إذا شقت الماء بجؤجؤها‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ تمخر الرياح السفن يعني أنها إذا جرت يسمع لها صوت قال أبو عبيدة‏:‏ يعني من صوائح والمخر صوت هبوب الريح عند شدتها وقال الحسن‏:‏ مواخر يعني مواقر أي مملوءة متاعاً ‏{‏ولتبتغوا من فضله‏}‏ يعني الأرباح بالتجارة في البحر ‏{‏ولعلكم تشكرون‏}‏ يعني إنعام الله عليكم إذا رأيتم نعم الله فيما سخر لكم ‏{‏وألقى في الأرض رواسي‏}‏ يعني جبالاً ثقالاً ‏{‏أن تميد بكم‏}‏ يعني لئلا تميل وتضطرب بكم، والميد هو اضطراب الشيء العظيم كالأرض، وقال وهب‏:‏ لما خلق الله سبحانه وتعالى الأرض جعلت تمور وتتحرك فقالت الملائكة‏:‏ إن هذه غير مقرة أحداً على ظهرها فأصبحوا، وقد أرسيت بالجبال فلم تدر الملائكة مم خلقت الجبال ‏{‏وأنهاراً‏}‏ يعني وجعل فيها أنهاراً لأن في ألقى معنى الجعل، فقوله سبحانه وتعالى‏:‏ وأنهاراً معطوف على وألقى، ولما ذكر الله الجبال ذكر بعدها الأنهار لأن معظم عيون الأنهار، وأصولها تكون من الجبال ‏{‏وسبلاً‏}‏ يعني وجعل فيها طرقاً مختلفة تسلكونها في أسفاركم، والتردد في حوائجكم من بلد إلى بلد ومن مكان إلى مكان ‏{‏لعلكم تهتدون‏}‏ يعني بتلك السبل إلى ما تريدون فلا تضلون ‏{‏وعلامات‏}‏ يعني وجعل فيها علامات تهتدون بها في أسفاركم قال بعضهم‏:‏ تم الكلام عند قوله‏:‏ وعلامات ثم ابتدأ ‏{‏وبالنجم هم يهتدون‏}‏ قال محمد بن كعب والكلبي‏:‏ أراد بالعلامات الجبال والنجوم، فالجبال علامات النهار، والنجوم علامات الليل‏.‏

وقال مجاهد‏:‏ أراد بالكل النجوم فمنها ما يكون علامات ومنها ما يهتدي به‏.‏ وقال السدي‏:‏ أراد بالنجم الثريا وبنات نعش والفرقدين والجدي، فهذه يهتدى بها إلى الطريق والقبلة‏.‏ وقال قتادة‏:‏ إنما خلق الله النجوم لثلاثة أشياء لتكون زينة السماء ومعالم الطريق ورجوماً للشياطين فمن قال غير هذا فقد تكلف ما لا علم له به‏.‏ قوله سبحانه وتعالى ‏{‏أفمن يخلق كمن لا يخلق‏}‏ لما ذكر الله عز وجل من عجائب قدرته وغرائب صنعته، وبديع خلقه ما ذكر على الوجه الأحسن والترتيب الأكمل، وكانت هذه الأشياء المخلوقة المذكورة في الآيات المتقدمة كلها دالة على كمال قدرة الله تعالى، ووحدانيته وأنه تعالى هو المنفرد بخلقها جمعياً قال على سبيل الإنكار على من ترك عبادته واشتغل بعبادة هذه الأصنام التي لا تضر ولا تنفع، ولا تقدر على شيء ‏{‏أفمن يخلق‏}‏ يعني هذه الأشياء الموجودة المرئية بالعيان، وهو الله تعالى الخالق لها ‏{‏كمن لا يخلق‏}‏ يعني هذه الأصنام العاجزة التي لا تخلق شيئاً البتة، لأنها جمادات لا تقدر على شيء، فكيف يليق بالعاقل أن يشتغل بعبادتها ويترك عبادة من يستحق العبادة وهو الله خالق هذه الأشياء كلها، ولهذا المعنى ختم هذه الآية بقوله ‏{‏أفلا تذكرون‏}‏ يعني أن هذا القدر ظاهر غير خافٍ على أحد فلا يحتاج فيه إلى دقيق الفكر والنظر بل مجرد التذكر فيه، كفاية لمن فهم وعقل واعتبر بما ذكره‏.‏ بقي في الآية سؤلان‏:‏ الأول‏:‏ قوله‏:‏ كمن لا يخلق المراد به الأصنام وهي جمادات لا تعقل فكيف يعبر عنها بلفظة من وهي لمن يعقل، والجواب عنه أن الكفار لما سموا هذه الأصنام آلة وعبدوها أجريت مجرى من يعقل في زعمهم ألا ترى إلى قوله‏:‏ بعد هذا والذين تدعون من دون الله لا يخلقون شيئاً فخاطبهم على قدر زعمهم، وعقولهم‏.‏ السؤال الثاني‏:‏ قوله‏:‏ أفمن يخلق كمن لا يخلق المقصود منه إلزام الحجة على من عبد الأصنام حيث جعل غير الخالق مثل الخالق، فكيف قال على سبيل الاستفهام أفمن يخلق كمن لا يخلق والجواب عنه أنه ليس المراد منه الاستفهام بل المراد منه أن من خلق الأشياء العظيمة وأعطى هذه النعم الجزيلة، كيف يسوى بينه وبين هذه الجمادات الخسيسة في التسمية والعبادة، وكيف يليق بالعاقل أن يترك عبادة من يستحق العبادة لأنه خالق هذه الأشياء الظاهرة كلها، ويشتغل بعبادة جمادات لا يخلق شيئاً البتة والله أعلم‏.‏

وقوله تعالى ‏{‏وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها‏}‏ يعني أن نعم الله على العبد فيما خلق الله فيه من صحة البدن وعافية الجسم، وإعطاء النظر الصحيح والعقل السليم، والسمع الذي يفهم به الأشياء وبطش اليدين وسعي الرجلين إلى غير ذلك مما أنعم به عليه في نفسه، وفيما أنعم به عليه مما خلق له من جميع ما يحتاج إليه من أمر الدين والدنيا لا تحصى حتى لو رام أحد معرفة أدنى نعمة من هذه النعم لعجز عن معرفتها وحصرها فكيف بنعمة العظام التي لا يمكن الوصول إلى حصرها لجميع الخلق فذلك قوله تعالى ‏{‏وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها‏}‏ يعني ولو اجتهدتم في ذلك وأتبعتم نفوسكم لا تقدرون عليه ‏{‏إن الله لغفور‏}‏ يعين لتقصيركم في القيام بشكر نعمته كما يجب عليكم ‏{‏رحيم‏}‏ يعني بكم حيث وسع عليكم النعم، ولم يقطعها عنكم بسبب التقصير، والمعاصي ‏{‏والله يعلم ما تسرّون وما تعلنون‏}‏ يعني أن الكفار مع كفرهم كانوا يسرون أشياء‏.‏ وهو ما كانوا يمكرون بالنبي صلى الله عليه وسلم، وما يعلنون يعني، وما يظهرون من إيذائه فأخبرهم الله عز وجل أنه عالم بكل أحوالهم سرها وعلانيتها لا تخفى عليه خافية وإن دقت وخفيت، وقيل‏:‏ إن الله سبحانه تعالى لما ذكر الأصنام وذكر عجزها في الآية المتقدمة ذكر في هذه الآية أن الإله الذي يستحق العبادة، يجب أن يكون عالماً بكل المعلومات سرها وعلانيتها، وهذه الأصنام ليست كذلك فلا تستحق العبادة ثم وصف الله هذه الأصنام بصفات فقال تعالى ‏{‏والذين تدعون من دون الله‏}‏ يعني الأصنام التي تدعونها آلهة من دون الله ‏{‏لا يخلقون شيئاً وهم يخلقون‏}‏ فإن قلت‏:‏ قوله سبحانه وتعالى في الآية المتقدمة أفمن يخلق كمن لا يخلق، يدل على أن هذه الأصنام لا تخلق شيئاً فقوله سبحانه وتعالى‏:‏ لا يخلقون شيئاً وهم يخلقون هذا هو نفس المعنى المذكور في تلك الآية فما فائدة التكرار‏؟‏ قلت‏:‏ فائدته أن المعنى المذكور في الآية المتقدمة أنهم لا يخلقون شيئاً فقط والمذكور في هذه الآية أنهم لا يخلقون شيئاً وإنهم مخلوقون كغيرهم، فكان هذا زيادة في المعنى وهو فائدة التكرار ‏{‏أموات‏}‏ أي جمادات ميتة لا حياة فيها ‏{‏غير أحياء‏}‏ كغيرها، والمعنى لو كانت هذه الأصنام آلهة كما تزعمون لكانت أحياء غير جائز عليها الموت لأن الإله الذي يستحق أن يعبد هو الحي الذي لا يموت وهذه أموات غير أحياء، فلا تستحق العبادة فمن عبدها فقد وضع العبادة في غير موضعها‏.‏

وقوله ‏{‏وما يشعرون‏}‏ يعني هذه الأصنام ‏{‏أيان يبعثون‏}‏ يعني متى يبعثون وفيه دليل على أن الأصنام تجعل فيها الحياة، وتبعث يوم القيامة حتى تتبرأ من عابديها‏.‏ وقيل‏:‏ معناها ما يدري الكفار الذين عبدوا الأصنام متى يبعثون‏.‏ قوله سبحانه وتعالى ‏{‏إلهكم إله واحد‏}‏ يعني أن الذي يستحق العبادة هو إله واحد، وهذه أصنام متعددة فكيف تستحق العبادة ‏{‏فالذين لا يؤمنون بالآخرة قلوبهم منكرة‏}‏ يعني جاحدة لهذا المعنى ‏{‏وهم مستكبرون‏}‏ يعني عن اتباع الحق لأن الحق إذا تبين كان تركه تكبراً ‏{‏لا جرم‏}‏ يعني حقاً ‏{‏أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون إنه لا يحب المستكبرين‏}‏ يعني عن اتباع الحق ‏(‏م‏)‏ عن ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر» فقال رجل‏:‏ إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسناً وفعله حسناً قال‏:‏ «إن الله جميل يحب الجمال الكبر بطر الحق، وغمط الناس» قوله بطر الحق هو أن يجعل ما جعله الله حقاً من توحيده، وعبادته باطلاً وهذا على قول من جعل أصل البطر من الباطل، ومن جعله من الحيرة فمعناه يتحير عند سماء الحق فلا يقبله، ولا يجعله حقاً، وقيل‏:‏ البطر التكبر يعني أنه يتكبر عند سماع الحق فلا يقبله، وقوله‏:‏ وغمط الناس يقال‏:‏ غمطت حق فلان إذا احتقرته ولم تره شيئاً وكذا معنى غمصته أي انتقصت به وازدريته‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏24- 32‏]‏

‏{‏وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ ‏(‏24‏)‏ لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ ‏(‏25‏)‏ قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ ‏(‏26‏)‏ ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ قَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكَافِرِينَ ‏(‏27‏)‏ الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلَى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ‏(‏28‏)‏ فَادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ ‏(‏29‏)‏ وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا خَيْرًا لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الْآَخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ ‏(‏30‏)‏ جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ كَذَلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ ‏(‏31‏)‏ الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ‏(‏32‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وإذا قيل لهم‏}‏ يعني لهؤلاء الذين لا يؤمنون بالآخرة وهم كفار مكة الذين اقتسموا عقابها، وطرقها إذا سألهم الحاج الذين يقدمون عليهم ‏{‏ماذا أنزل ربكم قالوا أساطير الأولين‏}‏ يعني أحاديثهم وأباطيلهم ‏{‏ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة‏}‏ اللام في ليحلموا لام العاقبة وذلك أنهم وصفوا القرآن بكونه أساطير الأولين، كانت عاقبتهم بذلك أن يحملوا أوزارهم يعني ذنوب أنفسهم وإنما قال سبحانه وتعالى‏:‏ كاملة لأن البلايا التي أصابتهم في الدنيا وأعمال البر التي عملوها في الدنيا، لا تكفر عنهم شيئاً يوم القيام بل يعاقبون بكل أوزارهم قال الإمام فخر الدين‏:‏ وهذا يدل على أنه سبحانه وتعالى قد يسقط بعض العقاب عن المؤمنين، إذ لو كان هذا المعنى حاصلاً في حق الكل، لم يكن لتخصيص هؤلاء الكفار بهذا التكميل فائدة‏.‏ وقوله سبحانه وتعالى ‏{‏ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم‏}‏ يعني ويحصل للرؤساء الذين أضلوا غيرهم وصدوهم عن الإيمان، مثل أجور الاتباع والسبب فيه ما روي عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئاً» أخرجه مسلم ومعنى الآية، والحديث أن الرئيس أو الكبير إذا سنَّ سنه حسنة أو سنة قبيحة، فتبعه عليها جماعة، فعملوا بها فإن الله سبحانه وتعالى يعظم ثوابه أو عقابه حتى يكون ذلك الثواب أو العقاب مساوياً لكل ما يستحقه كل واحد من الأتباع، الذين عملوا بسنته الحسنة أو القبيحة، وليس المراد أن الله تعالى‏:‏ يوصل جميع الثواب أو العقاب الذي يستحقه الأتباع إلى الرؤساء، لأن ذلك ليس بعدل ويدل عليه قوله تعالى‏:‏ ولا تزر وازرة وزر أخرى، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأن ليس للإنسان إلا ما سعى‏}‏ قال الواحدي‏:‏ ولفظة من في قوله ومن أوزار الذين يضلونهم، بغير علم ليست للتبعيض لأنها لو كانت للتبعيض لنقص عن الأتباع بعض الأوزار، وذلك غير جائز لقوله عليه الصلاة والسلام «لا ينقص ذلك من آثامهم شيئاً»، ولكنها للجنس أي لحملوا من جنس أوزار الأتباع وقوله‏:‏ بغير علم يعني أن الرؤساء إنما يقدمون على إضلال غيرهم، بغير علم، بما يستحقونه من العقاب، على ذلك الإضلال بل يقدمون على ذلك جهلاً منهم بما يستحقونه من العذاب الشديد‏.‏ ‏{‏ألا ساء ما يزرون‏}‏ يعني ألا بئس ما يحملون ففيه وعيد وتهديد‏.‏ قوله سبحانه وتعالى ‏{‏قد مكر الذين من قبلهم‏}‏ يعني من قبل كفار قريش وهو نمروذ بن كنعان الجبار، وكان أكبر ملوك الأرض في زمن إبراهيم صلى الله عليه وسلم وكان من مكره أنه بنى صرحاً ببابل ليصعد إلى السماء، ويقاتل أهلها في زعمه‏.‏

قال ابن عباس‏:‏ وكان طول الصرح في السماء خمسة آلاف ذراع‏.‏ وقال كعب ومقاتل‏:‏ كان طوله فرسخين فهبت ريح فقصفته وألقت رأسه في البحر وخر عليهم الباقي فأهلكهم وهم تحته ولما سقط تبلبلت ألسنة الناس من الفزع فتكلموا يومئذ بثلاثة وسبعين لساناً، فلذلك سميت بابل وكان لسان الناس قبل ذلك السريانية قلت هكذا ذكره البغوي وفي هذا نظر لأن صالحاً عليه السلام كان قبلهم وكان يتكلم بالعربية، وكان أهل اليمن عرباً منهم جرهم الذي نشأ إسماعيل بينهم، وتعلم منهم العربية كانت قبائل العرب قديمة قبل إبراهيم عليه السلام مثل طسم وجديس وكل هؤلاء عرب تكلموا في قدم الزمان بالعربية، ويدل على صحة هذا قوله‏:‏ ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى والله أعلم‏.‏ وقيل‏:‏ حمل قوله قد مكر الذين من قبلهم على العموم أولى فتكون الآية عامة في جميع الماكرين المبطلين الذي يحاولون إلحاق الضرر والمكر بالغير، وقوله سبحانه وتعالى ‏{‏فأتى الله بنيانهم من القواعد‏}‏ يعني قصد تخريب بنيانهم من أصوله، وذلك بأن أتاهم بريح قصفت بنيانهم من أعلى، وأتاهم بزلازل قلعت بنيانهم من قواعده وأساسه، هذا إذا حملنا تفسير الأية على القول الأول، وهو ظاهر اللفظ وإن حملنا تفسير الآية على القول الثاني‏:‏ وهو حملها على العموم كان المعنى أنهم لما رتبوا منصوبات ليمكروا بها على أنبياء الله وأهل الحق من عباده أهلكهم الله تعالى، وجعل هلاكهم مثل هلاك بنوا بنياناً وثيقاً شديداً ودعموه بالأساطين فانهدم ذلك البنيان، وسقط عليهم فأهلكهم فهو مثل ضربه الله سبحانه وتعالى لمن مكر بآخر فأهلكه الله بمكره، ومنه المثل السائر على ألسنة الناس‏:‏ من حفر بئراً لأخيه أوقعه الله فيه‏.‏ وقوله تعالى ‏{‏فخرّ عليهم السقف من فوقهم‏}‏ يعني سقط عليهم السقف فأهلكهم وقوله‏:‏ من فوقهم للتأكيد لأن السقف لا يخر إلا من فوقهم‏.‏ وقيل‏:‏ يحتمل أنهم لم يكونوا تحت السقف عند سقوطه، فلما قال من فوقهم على أنهم كانوا تحته، وأنه لما خر عليهم أهلكوا وماتوا تحته تحت السقف عند سقوطه، فلما قال من فوقهم على أنهم كانوا تحته، وأنه لما خر عليهم أهلكوا وماتوا تحته ‏{‏وأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون‏}‏ يعني في مأمنهم، وذلك أنهم لما اعتمدوا على قوة بنيانهم، وشدته كان ذلك البنيان سبب هلاكهم ‏{‏ثم يوم القيامة يخزيهم‏}‏ يعني يهينهم بالعذاب، وفيه إشارة بأن العذاب يحصل لهم في الدنيا والآخرة لأن الخزي هو العذاب مع الهوان ‏{‏ويقول‏}‏ يعني ويقول‏:‏ الله لهم يوم القيامة ‏{‏أين شركائي‏}‏ يعني في زعمكم واعتقادكم ‏{‏الذين كنتم تشاقون فيهم‏}‏ يعني كنتم تعادون وتخالفون المؤمنين وتخاصمونهم في شأنهم لأن المشاقة عبارة عن كون كل واحد من الخصمين في شق غير شق صاحبه، والمعنى‏:‏ ما لهم لا يحضرون معكم ليدفعوا عنكم ما نزل بكم من العذاب والهوان ‏{‏قال الذين أوتوا العلم‏}‏ يعني المؤمنين وقيل الملائكة ‏{‏إن الخزي‏}‏ يعني الهوان ‏{‏اليوم‏}‏ يعني في هذا اليوم وهو يوم القيامة ‏{‏والسوء‏}‏ يعني العذاب ‏{‏على الكافرين‏}‏ وإنما يقول المؤمنون‏:‏ هذا يوم القيامة لأن الكفار كانوا يستهزئون بالمؤمنين في الدنيا، وينكرون عليهم أحوالهم فإذا كان يوم القيامة ظهر أهل الحق، وأُكرموا بأنواع الكرامات وأهين أهل الباطل وعذبوا بأنواع العذاب فعند ذلك يقول المؤمنون‏:‏ إن الخزي اليوم والسوء على الكافرين وفائدة هذا القول إظهار الشماتة بهم فيكون أعظم في الهوان والخزي قوله تعالى ‏{‏الذين تتوفاهم الملائكة‏}‏ تقبض أرواحهم الملائكة، وهم ملك الموت وأعوانه ‏{‏ظالمي أنفسهم‏}‏ يعني بالكفر ‏{‏فألقوا السلم‏}‏ يعني أنهم استسلموا وانقادوا لأمر الله الذي نزل بهم وقالوا ‏{‏ما كنا نعمل من سوء‏}‏ يعني شركاً وإنما قالوا‏:‏ ذلك من شدة الخوف ‏{‏بلى إن الله عليم بما كنتم تعملون‏}‏ يعني فلا فائدة لكم في إنكاركم‏.‏

قال عكرمة‏:‏ عنى بذلك ما حصل من الكفار يوم بدر ‏{‏فادخلوا‏}‏ أي فيقال لهم ادخلوا ‏{‏أبواب جهنم خالدين فيها‏}‏ يعني مقيمين فيها لا يخروجون منها‏.‏ وإنما قال ذلك لهم ليكون أعظم في الغم والحزن، وفيه دليل على أن الكفار بعضهم أشد عذاباً من بعض ‏{‏فلبئس مثوى المتكبرين‏}‏ يعني عن الإيمان قوله عز وجل ‏{‏وقيل للذين اتقوا ماذا أنزل ربكم قالوا خيراً‏}‏ وذلك أن أحياء العرب كانوا يبعثون إلى مكة أيام الموسم من يأتيهم بخبر النبي صلى الله عليه وسلم فإذا جاء الوافد سأل الذين كانوا يقعدون على طرقات مكة من الكفار فيقولون‏:‏ هو ساحر كاهن شاعر كذاب مجنون وإذا لم تلقه خير لك‏.‏ فيقول الوافد‏:‏ أنا شر وافد إن رجعت إلى قومي من دون أن أدخل مكة فألقاه فيدخل مكة، فيرى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيسألهم عنه فيخبرونه بصدقه، وأمانته وأنه نبي مبعوث من الله عز وجل، فذلك قوله سبحانه وتعالى‏:‏ وقيل الذين اتقوا يعني اتقوا الشرك، وقول الزور والكذب ماذا أنزل ربكم‏؟‏ قالوا‏:‏ خيراً يعني أنزل خيراً فان قلت لم رفع الأول وهو قوله‏:‏ أساطير الأولين ونصب الثاني، وهو قوله قالوا خيراً قلت ليحصل الفرق بين الجوابين جواب المنكر الجاحد، وجواب المقر المؤمن وذلك أنهم لما سألوا الكفار عن المنزل على النبي صلى الله عليه وسلم عدلوا بالجواب عن السؤال فقالوا‏:‏ هو أساطير الأولين وليس هو من الإنزال في شيء لأنهم لم يعتقدوا كونه منزلاً ولما سألوا المؤمنين على المنزل على النبي صلى الله عليه وسلم لم يتلعثموا، وأطبقوا الجواب على السؤال بيّناً مكشوفاً معقولاً للإنزال فقالوا‏:‏ خيراً أي أنزل خيراً، وتم الكلام عند قوله خيراً فهو، وقف تام ثم ابتدأ بقوله تعالى ‏{‏للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة‏}‏ يعني الذين أتوا بالأعمال الصالحة الحسنة ثوابها حسنة مضاعفة من الواحد إلى العشرة إلى السبعمائة إلى أضعاف كثيرة، وقال الضحاك‏:‏ هي النصر والفتح‏.‏

وقال مجاهد‏:‏ هي الرزق الحسن‏.‏ فعلى هذا يكون معنى الآية للذين أحسنوا ثواب إحسانهم في هذه الدنيا حسنة، وهي النصر والفتح والرزق الحسن، وغير ذلك مما أنعم الله به على عباده في الدنيا، ويدل على صحة هذا التأويل قوله تعالى ‏{‏ولدار الآخرة خير‏}‏ يعني ما لهم في الآخرة مما أعد الله لهم في الجنة خير مما يحصل لهم في الدنيا ‏{‏ولنعم دار المتقين‏}‏ يعني الجنة وقال الحسن‏:‏ هي الدنيا لأن أهل التقوى يتزودون منها إلى الآخرة والقول الأول أولى هو قول جمهور المفسرين لأن الله فسر هذه الدار بقوله ‏{‏جنَّات عدن‏}‏ يعني بساتين إقامة من قولهم‏:‏ عدنَ بالمكان، أي أقام به ‏{‏يدخلونها‏}‏ يعني تلك الجنات لا يرحلون عنها ولا يخرجون منها ‏{‏تجري من تحتها الأنهار‏}‏ يعني تجري الأنهار في هذه الجنات من تحت دور أهلها وقصورهم ومساكنهم ‏{‏لهم فيها‏}‏ يعني في الجنات ‏{‏ما يشاؤون‏}‏ يعني ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين مع زيادات غير ذلك، وهذه الحالة لا تحصل لأحد إلا في الجنة لأن قوله فيها ما يشاؤون لا يفيد الحصر، وذلك يدل على أن الإنسان لا يجد كل ما يريد في الدنيا ‏{‏كذلك يجزي الله المتقين‏}‏ أي هكذا يكون جزاء المتقين، ثم عاد إلى وصف المتقين فقال تعالى ‏{‏الذين تتوفاهم الملائكة طيبين‏}‏ يعني مؤمنين طاهرين من الشرك‏.‏ قال مجاهد‏:‏ زاكية أقوالهم وأفعالهم وقيل‏:‏ إن قوله طيبين كلمة جامعة لكل معنى حسن فيدخل فيه أنهم، أتوا بكل ما أمروا به من فعل الخيرات والطاعات واجتنبوا كل ما نهوا عنه من المكروهات، والمحرمات مع الأخلاق الحسنة والخصال الحميدة، والمباعدة من الأخلاق المذمومة والخصال المكروهة القبيحة وقيل معناه إن أوقاتهم تكون طيبة سهلة لأنهم يبشرون عند قبض أرواحهم بالرضوان والجنة والكرامة، فيحصل لهم عند ذلك الفرح والسرور والابتهاج، فيسهل عليهم قبض أرواحهم ويطيب لهم الموت على هذه الحالة ‏{‏يقولون‏}‏ يعني الملائكة لهم ‏{‏سلام عليكم‏}‏ يعني تسلم عليهم الملائكة أو تبلغهم السلام من الله ‏{‏ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون‏}‏ يعني في الدنيا من الأعمال الصالحة‏.‏ فإن قلت‏:‏ كيف الجمع بين قوله تعالى ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون وبين قوله‏:‏ صلى الله عليه وسلم «لن يدخل أحد منكم الجنة بعمله قالوا ولا أنت يا رسول الله قال‏:‏ ولا أنا إلا أن يتغمدني الله بفضله ورحمته» أخرجاه في الصحيحين من حديث أبي هريرة‏؟‏ قلت‏:‏ قال الشيخ محيي الدين النووي رحمه الله في شرح مسلم‏.‏

اعلم أن مذهب أهل السنة أنه لا يثبت بالعقل ثواب ولا عقاب ولا غيرها إلا بالشرع ومذهب أهل السنة أيضاً أن الله سبحانه وتعالى لا يجب عليه شيء بل العالم كله ملكه والدنيا والآخرة في سلطانه يفعل فيهما ما يشاء فلو عذب المطيعين والصالحين أجمعين، وأدخلهم النار كان ذلك عدلاً منه، وإذا أكرمهم ورحمهم وأدخلهم الجنة فهو فضل منه ولو نعم الكافرون، وأدخلهم الجنة كان ذلك له ومنه فضلاً، ولكنه سبحانه وتعالى أخبر وخبره صادق أنه لا يفعل هذا بل يغفر للمؤمنين، ويدخلهم الجنة برحمته ويعذب الكافرين ويدخلهم النار عدلاً منه‏.‏ وأما المعتزلة فيثبتون الأحكام بالعقل، ويوجبون ثواب الأعمال ويوجبون الأصلح في خبط طويل لهم، تعالى الله عن اختراعاتهم الباطلة المنابذة لنصوص الشرع‏.‏ وفي ظاهر الحديث دلالة لأهل الحق أنه لا يستحق أحد الثواب والجنة بطاعته‏.‏ وأما قوله سبحانه وتعالى‏:‏ ‏{‏ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون‏}‏ ‏{‏وتلك الجنة التي أورثتموها بما كنتم تعملون‏}‏ ونحوها من الآيات التي تدل على أن الأعمال الصالحة يدخل بها الجنة، فلا تعارض بينها، وبين هذا الحديث بل معنى الآيات‏:‏ أن دخول الجنة بسبب الأعمال والتوفيق للإخلاص فيها وقبولها برحمة الله تعالى وفضله فيصح أنه لم يدخل الجنة بمجرد العمل وهو مراد الحديث ويصح أنه دخل بالأعمال أي بسببها وهي من الرحمة، والفضل والمنة والله أعلم بمراده‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏33- 38‏]‏

‏{‏هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ‏(‏33‏)‏ فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ‏(‏34‏)‏ وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلَا آَبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ ‏(‏35‏)‏ وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ ‏(‏36‏)‏ إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ ‏(‏37‏)‏ وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ‏(‏38‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏هل ينظرون‏}‏ يعني هؤلاء الذين أشركوا بالله وجحدوا نبوتك يا محمد ‏{‏إلا أن تأتيهم الملائكة‏}‏ يعني لقبض أرواحهم ‏{‏أو يأتي أمر ربك‏}‏ يعني بالعذاب في الدنيا وهو عذاب الاستئصال‏.‏ وقيل‏:‏ المراد به يوم القيامة ‏{‏كذلك فعل الذين من قبلهم‏}‏ يعني من الكفر والتكذيب ‏{‏وما ظلمهم الله‏}‏ يعني بتعذيبه إياهم ‏{‏ولكن كانوا أنفسهم يظلمون‏}‏ يعني باكتسابهم المعاصي، والكفر والأعمال القبيحة الخبيثة، ‏{‏فأصابهم سيئات ما عملوا‏}‏ يعني فأصابهم عقوبات ما اكتسبوا من الأعمال الخبيثة ‏{‏وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون‏}‏ والمعنى ونزل بهم جزاء استهزائهم ‏{‏وقال الذين أشركوا لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء نحن ولا آباؤنا‏}‏ يعني أن مشركي مكة قالوا هذا على طريق الاستهزاء‏.‏ والحاصل أنهم تمسكوا بهذا القول في إنكار النبوة، فقالوا‏:‏ لو شاء الله منا الإيمان لحصل جئت أو لم تجئ ولو شاء الله منا الكفر لحصل جئت أو لم تجئ‏.‏ وإذا كان كذلك فالكل من الله، فلا فائدة في بعثه رسل إلى الأمم والجواب عن هذا أنهم لما قالوا‏:‏ إن الكل من الله فكانت بعثة الرسل عبثاً كان هذا اعتراضاً على الله تعالى، وهو جار مجرى طلب العلة في أحكام الله، وفي أفعاله وهو باطل لأن الله سبحانه وتعالى يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد فلا اعتراض لأحد عليه في أحكامه وأفعاله، ولا يجوز لأحد أن يقول لو فعلت هذا، ولم لم تفعل هذا كان في حكم الله وسنته في عباده إرسال الرسل إليهم ليأمروهم بعبادة الله تعالى، وينهوهم عن عبادة غيره وأن الهداية والإضلال إليه فمن هداه فهو المهتدي، ومن أضله فهو الضال وهذه سنة الله في عباده أنه يأمر الكل بالإيمان به وينهاهم عن الكفر‏.‏ ثم إنه سبحانه وتعالى يهدي من يشاء إلى الإيمان ويضلّ من يشاء فلا اعتراض لأحد عليه‏.‏ ولما كانت سنة الله قديمة ببعثة الرسل إلى الأمم الكافرة المكذبة كان قول هؤلاء لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء نحن ولا آباؤنا جهلاً منهم، لأنهم اعتقدوا أن كون الأمر كذلك يمنع من جواز بعثه الرسل وهذا الاعتقاد باطل فلا جرم استحقوا عليه الذم والوعيد‏.‏ وأما قوله تعالى ‏{‏ولا حرمنا من دونه من شيء‏}‏ يعني الوصيلة والسائبة والحام‏.‏ والمعنى‏:‏ فلولا أن الله رضيها لنا لغير ذلك ولهدانا إلى غيره ‏{‏كذلك فعل الذين من قبلهم‏}‏ يعني أن من تقدم هؤلاء من كفار مكة ومن الأمم الماضية كانوا على هذه الطريقة، وهذا الفعل الخبيث فإنكار بعثة الرسل كان قديماً في الأمم الخالية ‏{‏فهل على الرسل إلا البلاغ المبين‏}‏ يعني ليس إليهم هداية أحد إنما عليهم تبليغ ما أرسلوا به إلى من أرسلوا إليه ‏{‏فهل على الرسل إلا البلاغ المبين‏}‏ يعني ليس إليهم هداية أحد إنما عليهم تبليغ ما أرسلوا به إلى من أرسلوا إليه ‏{‏ولقد بعثنا في كل أمة رسولاً‏}‏ يعني كما بعثنا فيكم محمداً صلى الله عليه وسلم ‏{‏أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت‏}‏ يعني أن الرسل كانوا يأمرونهم بأن يعيدوا الله وأن يجتنبوا عبادة الطاغوت، وهو اسم كل معبود من دون الله ‏{‏فمنهم‏}‏ يعني فمن الأمم الذين جاءتهم الرسل ‏{‏من هدى الله‏}‏ يعني هداه الله إلى الإيمان به وتصديق رسله ‏{‏ومنهم من حقت عليه الضلالة‏}‏ يعني، ومن الأمم من وجبت عليه الضلالة بالقضاء السابق في الأزل حتى مات على الكفر والضلال، وفي هذه الآية أبين دليل على أن الهادي، والمضل هو الله تعالى لأنه المتصرف في عباده فيهدي من يشاء ويضل من يشاء لا اعتراض لأحد عليه بما حكم به في سابق علمه ‏{‏فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين‏}‏ يعني فسيروا في الأرض معتبرين متفكرين لتعرفوا مآل من كذب الرسل، وهو خراب منازلهم بالعذاب والهلاك، ولتعرفوا أن العذاب نازل بكم إن أصررتم على الكفر والتكذيب كما نزل بهم‏.‏

قوله سبحانه وتعالى ‏{‏إن تحرص على هداهم‏}‏ الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم يعني إن تحرص يا محمد على هدى هؤلاء، وإيمانهم وتجتهد كل الاجتهاد ‏{‏فإن الله لا يهدي من يضل‏}‏ قرئ بفتح الياء وكسر الدال يعني لا يهدي الله من أضله، وقيل‏:‏ معناه لا يهتدي من أضله الله وقرئ بضم الياء، وفتح الدال ومعناه من أضله الله فلا هادي له ‏{‏وما لهم من ناصرين‏}‏ أي مانعين يمنعونهم من العذاب ‏{‏وأقسموا بالله جهد أيمانهم‏}‏ قال ابن الجوزي‏:‏ سبب نزولها أن رجلاً من المسلمين كان له على رجل من المشركين دين فأتاه يتقاضاه فكان فيما تكلم به المسلم‏:‏ والذي أرجوه بعد الموت‏.‏ فقال المشرك‏:‏ إنك لتزعم أنك تبعث بعد الموت، وأقسم بالله لا يبعث الله من يموت فنزلت هذه الآية قاله أبو العالية‏.‏ وتقرير الشبهة التي حصلت للمشركين في إنكار البعث بعد الموت أن الإنسان ليس هو، إلا هذه البنية المخصوصة، فإذا مات وتفرقت أجزاؤه وبلى امتنع عوده بعينه لأن الشيء إذا عدم فقد فني، ولم يبق له ذات ولا حقيقة بعد فنائه وعدمه، فهذا هو أصل شبهتهم ومعتقدهم في إنكار البعث بعد الموت، فذلك قوله تعالى وأقسموا بالله جهد أيمانهم ‏{‏لا يبعث الله من يموت‏}‏ فرد الله عليهم ذلك، وكذبهم في قولهم فقال تعالى ‏{‏بلى‏}‏ يعني بلى يبعثهم بعد الموت لأن لفظة بلى إثبات لما بعد النفي‏.‏ والجواب عن شبهتهم أن الله سبحانه وتعالى، خلق الإنسان وأوجده من العدم ولم يك شيئاً فالذي أوجده بقدرته ثم أعدمه قادر على إيجاده بعد إعدامه لأن النشأة الثانية أهون من الأولى ‏{‏وعداً عليه حقاً‏}‏ يعني أن الذي وعد به من البعث بعد الموت وعد حق لا خلف فيه ‏{‏ولكن أكثر الناس لا يعلمون‏}‏ يعني لايفهمون كيف يكون ذلك العود والله سبحانه وتعالى، قادر على كل شيء‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏39- 50‏]‏

‏{‏لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ ‏(‏39‏)‏ إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ‏(‏40‏)‏ وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآَخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ‏(‏41‏)‏ الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ‏(‏42‏)‏ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ‏(‏43‏)‏ بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ‏(‏44‏)‏ أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ ‏(‏45‏)‏ أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ ‏(‏46‏)‏ أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ ‏(‏47‏)‏ أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلَالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ ‏(‏48‏)‏ وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلَائِكَةُ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ ‏(‏49‏)‏ يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ‏(‏50‏)‏‏}‏

‏{‏ليبين لهم الذي يختلفون فيه‏}‏ يعني من أمر البعث ويظهر لهم الحق الذي لا خلق فيه ‏{‏وليعلم الذين كفروا أنهم كانوا كاذبين‏}‏ يعني في قولهم لا بعث بعد الموت ‏{‏إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون‏}‏ يعني أن الله سبحانه وتعالى قادر إذا أراد أن يحيي الموتى، ويبعثهم للحساب والجزاء فلا تعب عليه في إحيائهم وبعثهم إنما يقول لشيء أراده كن فيكون على ما أراد لأنه القادر الذي لا يعجزه شيء أراده ‏(‏خ‏)‏ عن أبي هريرة قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «يقول الله تبارك وتعالى يشتمني ابن آدم وما ينبغي له أن يشتمني ويكذبني، وما ينبغي له أن يكذبني أما شتمه إياي فيقول إن لي ولداً، وأما تكذيبه إياي فقوله ليس يعيدني كما بدأني» وفي رواية «كذبني ابن آدم ولم يكن له ذلك وشتمني، ولم يكن له ذلك أما تكذيبه إياي فقوله لن يعيدني كما بدأني وليس أول الخلق بأهون من إعادته وأما شتمه إياي فقوله‏:‏ اتخذ الله ولداً وأنا الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد» وقوله تعالى ‏{‏والذين هاجروا في الله من بعد ما ظلموا‏}‏ يعني أوذوا وعذبوا نزلت في بلال وصهيب وخباب وعابس وجبير وأبي جندل بن سهيل، أخذهم المشركون بمكة فجعلوا يعذبونهم ليرجعوا عن الإسلام إلى الكفر وهم المستضعفون‏.‏ فأما بلال فكان أصحابه يخرجونه إلى بطحاء مكة في شدة الحر ويشدونه، ويجعلون على صدره الحجارة وهو يقول أحد أحد فاشتراه منهم أبو بكر الصديق وأعتقه واشترى معه ستة نفر آخرين، وأما صهيب فقال لهم إني رجل كبير إن كنت معكم فلن أنفعكم وإن كنت عليكم فلا أضركم فاشترى نفسه بماله فباعوه منه فمر به أبو بكر الصديق‏.‏ فقال‏:‏ يا صهيب ربح البيع‏.‏ وأما باقيهم فأعطونهم بعض ما يريدون، فخلوا عنهم‏.‏ وقالت قتادة‏:‏ هم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ظلمهم أهل مكة فأخرجوهم من ديارهم حتى لحق طائفة بالحبشة ثم بوأهم الله المدينة بعد ذلك فجعلها لهم دار هجرة، فهاجروا إليها وجعل لهم أنصاراً من المؤمنين فآووهم ونصروهم وواسوهم، وهذه الآية تدل على فضل المهاجرين وفضل الهجرة وفيه دليل على أن الهجرة إذا لم تكن لله خالصة لم يكن لها موقع، وكانت بمنزلة الانتقال من بلد إلى آخر ومنه حديث «الأعمال بالنيات» وفيه «فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه» الحديث أخرجاه في الصحيحين من رواية عمر بن الخطاب وقوله تعالى ‏{‏لنبوأنهم في الدنيا حسنة‏}‏ يعني لنبوأنهم تبوئة حسنة وهو أنه تعالى أنزلهم المدينة، وجعلها لهم دار هجرة والمعنى لنبوأنهم في الدنيا داراً حسنة أو بلدة حسنة، وهي المدينة روي عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه كان إذا أعطى الرجل من المهاجرين عطاء يقول له‏:‏ خذ هذا بارك الله لك فيه هذا ما وعدك الله في الدنيا وما ادخر لك في الآخرة أفضل، ثم يقول هذه الآية‏.‏

وقيل‏:‏ معناه ليحسنن إليهم في الدنيا بأن يفتح لهم مكة، ويمكنهم من أهلها الذين ظلموهم وأخرجوهم منها ثم ينصرهم على العرب قاطبة، وعلى أهل المشرق والمغرب وقيل المراد بالحسنة في الدنيا التوفيق والهداية في الدين ‏{‏ولأجر الآخرة أكبر‏}‏ يعني أعظم وأفضل وأشرف مما أعطاهم في الدنيا ‏{‏لو كانوا يعلمون‏}‏ قيل‏:‏ الضمير يرجع إلى الكفار لأن المؤمنين يعلمون ما لهم في الآخرة، والمعنى لو كان هؤلاء الكفار يعلمون أن أجر الآخرة أكبر مما هم فيه من نعيم الدنيا لرغبوا فيه، وقيل‏:‏ إنه راجع إلى المهاجرين والمعنى لو كانوا يعلمون ما أعد الله لهم في الآخرة، لزادوا في الجد والاجتهاد والصبر على ما أصابهم من أذى الماكرين ‏{‏الذين صبروا‏}‏ يعني في الله على ما نالهم، وبذل الأنفس والأموال في سبيل الله ‏{‏وعلى ربهم يتوكلون‏}‏ يعني في أمورهم كلها قال بعضهم ذكر الله الصبر والتوكيل في هذه الآية، وهما مبدأ السلوك إلى الله تعالى ومنتهاه أما الصبر فهو قهر النفس وحبسها على أعمال البر وسائر الطاعات، واحتمال الأذى من الخلق والصبر عن الشهوات المباحات والمحرمات والصبر على المصائب، وأما التوكل فالانقطاع عن الخلق بالكلية والتوجه إلى الحق تعالى بالكلية فالأول هو مبدأ السلوك إلى الله تعالى، والثاني هو آخر الطريق ومنتهاه ‏{‏وما أرسلنا من قبلك إلا رجالاً نوحي إليهم‏}‏ نزلت هذه الآية جواباً لمشركي مكة حيث أنكروا نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وقالوا الله أعظم وأجل أن يكون رسوله بشراً فهلا بعث ملكاً إلينا فأجابهم الله عز وجل بقوله‏:‏ وما أرسلنا من قبلك يا محمد إلا رجالاً يعني مثلك نوحي إليهم والمعنى أن عادة الله عز وجل جارية من أول مبدأ الخلق أنه لم يبعث إلا رسولاً من البشر فهذه عادة مستمرة، وسنة جارية قديمة ‏{‏فاسألوا أهل الذكر‏}‏ يعني أهل الكتاب وهم اليهود والنصارى، وإنما أمرهم الله بسؤال أهل الكتاب لأن كفار مكة كانوا يعتقدون أن أهل الكتاب أهل علم، وقد أرسل الله إليهم رسلاً منهم مثل موسى وعيسى وغيرهم من الرسل، وكانوا بشراً مثلهم فإذا سألوهم فلا بد، وأن يخبروهم بأن الرسل الذين أرسلوا إليهم كانوا بشراً، فإذا أخبروهم بذلك زالت الشبهة عن قلوبهم ‏{‏إن كنتم لا تعلمون‏}‏ الخطاب لأهل مكة يعني إن كنتم يا هؤلاء لا تعلمون ذلك ‏{‏بالبينات والزبر‏}‏ اختلفوا في المعنى الجالب لهذه الباء فقيل المعنى، وما أرسلنا من قبلك بالبيِّنات والزبر إلا رجالاً يوحى إليهم أرسلناهم بالبينات والزبر، وقيل الذكر بمعنى العلم في قوله فاسألوا أهل الذكر يعني أهل العلم والمعنى فاسئلوا أهل الذكر الذي هو العلم بالبينات والزبر إن كنتم لا تعلمون أنتم ذلك‏.‏

والبينات والزبر اسم جامع لكل ما يتكامل به أمر الرسالة، لأن مدار أمر الرسول على المعجزات الدالة على صدقة، وهي بالبينات وعلى بيان الشرائع والتكاليف، وهي المراد بالزبر يعني الكتب المنزلة على الرسل من الله عز وجل ‏{‏وأنزلنا إليك الذكر‏}‏ الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم يعني‏:‏ وأنزلنا عليك يا محمد الذكر الذي هو القرآن وإنما سماه ذكراً لأن فيه مواعظ، وتنبيهاً للغافلين ‏{‏لتبين للناس ما نزل إليهم‏}‏ يعني ما أجمل إليك من أحكام القرآن وبيان الكتاب يطلب منه السنة والمبين لذلك المجمل هو الرسول صلى الله عليه وسلم ولهذا قال بعضهم‏:‏ متى وقع تعارض بين القرآن والحديث وجب تقديم الحديث لأن القرآن مجمل، والحديث مبين بدلالة هذه الآية والمبين مقدم على المجمل وقال بعضهم القرآن منه محكم، ومنه متشابه فالمحكم يجب أن يكون مبيناً والمتشابه هو المجمل ويطلب بيانه من السنة فقوله تعالى‏:‏ لتبين للناس ما نزل إليهم محمول على ما أجمل فيه دون المحكم البين المفسر ‏{‏ولعلهم يتفكرون‏}‏ يعني فيما أنزل إليهم فيعلموا به ‏{‏أفأمن الذين مكرو السيئات‏}‏ فيه حذف تقديره المنكرات السيئات وهم كفار قريش مكروا برسول الله صلى الله عليه وسلم وبأصحابه، وبالغوا في أذيتهم والمكر عبارة عن السعي بالفساد على سبيل الإخفاء، وقيل‏:‏ المراد بهذا المكر اشتغالهم بعبادة غير الله فيكون مكرهم على أنفسهم والصحيح أن المراد بهذا المكر السعي في أذى رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين‏.‏ وقيل‏:‏ المراد بالذين مكروا السيئات نمروذ، ومن هو مثله والصحيح أن المراد بهم كفار مكة ‏{‏أن يخسف الله بهم الأرض‏}‏ يعني كما خسف بقرون من قبلهم ‏{‏أو يأتيهم العذاب من حيث لا يشعرون‏}‏ يعني أن العذاب يأتيهم بغتة فيهلكهم فجأة كما أهلك قوم لوط وغيرهم ‏{‏أو يأخذهم في تقلبهم‏}‏ بمعنى في تصرفهم في الأسفار فإنه سبحانه وتعالى، على إهلاكهم في السفر كما هو قادر على إهلاكهم في الحضر، وقال ابن عباس يأخذهم في اختلافهم‏.‏ وقال ابن جريج‏:‏ إقبالهم وإدبارهم يعني أنه تعالى قادر على أن يأخذهم في ليلهم ونهارهم، وفي جميع أحوالهم ‏{‏فما هم بمعجزين‏}‏ يعني بسابقين الله أو يفوتونه بل هو قادر عليهم ‏{‏أو يأخذهم على تخوف‏}‏ قال ابن عباس ومجاهد‏:‏ يعني على تنقص‏.‏ قال ابن قتيبة‏:‏ التخوف التنقص ومثله التخون‏.‏ يقال تخوفه الدهر وتخونه إذا انتقصه وأخذ ماله وحشمه، ويقال‏:‏ هذه لغة هذيل فعلى هذا القول يكون المراد به أن ينقص من أطرافهم ونواحيهم الشيء بعد الشيء حتى يهلك جميعهم وقيل هو على أصله من الخوف فيحتمل أنه سبحانه وتعالى لا يأخذهم بالعذاب أولاً، بل يخوفهم ثم يعذبهم بعد ذلك وقال الضحاك والكلبي‏:‏ هو من الخوف يعني يهلك طائفة فيتخوف الآخرون أن يصيبهم مثل ما أصابهم، فيحتمل أنه سبحانه وتعالى خوفهم بخسف يحصل في الأرض أو بعذاب ينزل من السماء، أو بآفات تحدث دفعة أو بآفات تحدث قليلاً قليلاً إلى أن يأتي الهلاك على أخرهم ثم إنه سبحانه وتعالى، ختم الآية بقوله ‏{‏فإن ربكم لرؤوف رحيم‏}‏ يعني أنه سبحانه وتعالى، لا يعجل العقوبة والعذاب‏.‏

قوله سبحانه وتعالى ‏{‏أولم يروا‏}‏ قرئ بالتاء على خطاب الحاضرين وبالياء على الغيبة ‏{‏إلى ما خلق الله من شيء‏}‏ يعني من جسم قائم له ظل، وهذه الرؤية لما كانت بمعنى النظر وصلت بإلى لأن المراد منها الاعتبار، والاعتبار لا يكون إلا بنفس الرؤية، التي يكون معها نظر إلى الشيء ليتأمل أحواله، ويتفكرون فيه فيعتبر به ‏{‏يتفيئوا ظلاله‏}‏ يعني تميل وتدور من جانب إلى جانب فهي من أول النهار على حال ثم تقلص ثم تعود في آخر النهار إلى حالة أخرى ويقال للظل بالعشي فيء، لأنه من فاء يفيء إذا رجع من المغرب إلى المشرق، والفيء الرجوع قال الأزهري تفيؤ الظلال رجوعها بعد انتصاف النهار فالتفيؤ لايكون إلا بالعشي وما انصرفت عنه الشمس، والظل يكون الغداة، وهو ما لم تنله الشمس وقوله ظلاله جمع ظل وإنما أضاف الظلال، وهو جمع مفرد وهو قوله‏:‏ من شيء لأنه يراد به الكثرة ومعناه الإضافة إلى ذوي الظلال ‏{‏عن اليمين والشمائل‏}‏ قال العلماء‏:‏ إذا طلعت الشمس من المشرق وأنت متوجه إلى القبلة كان ظلك عن يمينك فإذا ارتفعت الشمس واستوت في وسط السماء كان ظلك خلفك فإذا مالت الشمس إلى الغروب كان ظلك عن يسارك‏.‏ وقال الضحاك أما اليمين فأول النهار وأما الشمال فآخر النهار وإنما وحد اليمين وإن كان المراد به الجمع للإيجاز والاختصار في اللفظ وقيل اليمين راجع إلى لفظ الشيء وهو واحد والشمائل راجع إلى المعنى لأن لفظ الشيء يراد به الجمع ‏{‏سجداً لله‏}‏ في معنى هذا السجود قولان‏:‏ أحدهما أن المراد به الاستسلام والانقياد والخضوع‏.‏ يقال سجد البعير إذا طأطأ رأسه ليركب، وسجدت النخلة إذا مالت لكثرة الحمل والمعنى أن جميع الأشياء التي لها ظلال فهي منقادة لله تعالى مستسلمة لأمره غير ممتنعة عليه، فيما سخرها له من التفيؤ وغيره وقال مجاهد‏:‏ إذا زالت الشمس سجد كل شيء لله، والقول الثاني في معنى هذا السجود أن الظلال واقعة على الأرض، ملتصقة بها كالساجد على الأرض فلما كانت الظلال يشبه شكلها الساجدين أطلق الله عليها هذا اللفظ وقيل ظل كل شيء ساجد لله سواء كان ذلك الشيء يسجد لله أو لا ويقال إن ظل الكافر ساجد لله وهو غير ساجد لله، ‏{‏وهم داخرون‏}‏ أي صاغرون أذلاء والداخر الصاغر الذي يفعل ما تأمره به شاء أم أبى وذلك أن جميع الأشياء منقادة لأمر الله تعالى‏.‏

فإن قلت الظلال ليست من العقلاء فكيف عبر عنا بلفظ من يعقل وجمعها بالواو والنون‏.‏ قلت‏:‏ لما وصفها الله سبحانه وتعالى بالطاعة والانقياد لأمره، وذلك صفة من يعقل عبر عنها بلفظ من يعقل، وجاز جمعها بالواو والنون، وهو جمع العقلاء قوله عز وجل ‏{‏ولله يسجد ما في السموات وما في الأرض من دابة‏}‏ قال العلماء‏:‏ السجود على نوعين سجود طاعة، وعبادة كسجود المسلم لله عز وجل، وسجود انقياد وخضوع كسجود الظلال فقوله‏:‏ ولله يسجد ما في السموات، وما في الأرض من دابة يحتمل النوعين لأن سجود كل شيء بحسبه فسجود المسلمين، والملائكة لله سجود عبادة وطاعة وسجود غيرهم سجود انقياد وخضوع وأتى بلفظ ما في قوله ما في السموات وما في الأرض للتغليب لأن ما لا يعقل أكثر ممن يعقل في العدد، والحكم للأغلب كتغليب المذكر على المؤنث، ولأنه لو أتى بمن التي هي للعقلاء لم يكن فيها دلالة على التغليب بل كانت متناولة للعقلاء خاصة فأتى بلفظة ما ليشمل الكل، ولفظة الدابة مشتقة من الدبيب وهو عبارة عن الحركة الجسمانية، فالدابة اسم يقع على كل حيوان جسماني يتحرك ويدب فيدخل فيه الإنسان، لأنه مما يدب على الأرض ولهذا أفرد الملائكة في قوله ‏{‏والملائكة‏}‏ لأنهم أولو أجنحة يطيرون بها أو أفردهم بالذكر، وإن كانوا من جملة من في السموات لشرفهم‏.‏ وقيل‏:‏ أراد ولله يسجد ما في السموات من الملائكة، وما في الأرض من دابة فسجود الملائكة والمسلمين للطاعة، وسجود غيرهم تذليلها وتسخيرها لما خلقت له وسجود ما لا يعقل، وسجود الجمادات يدل على قدرة الصانع سبحانه وتعالى، فيدعو الغافلين إلى السجود لله عند التأميل والتدبر ‏{‏وهم لا يستكبرون‏}‏ يعني الملائكة ‏{‏يخافون ربهم من فوقهم‏}‏ وكقوله ‏{‏وهو القاهر فوق عباده‏}‏ وقد تقدم تفسيره ‏{‏ويفعلون ما يؤمرون‏}‏ عن أبي ذر قال رسول الله عليه وسلم‏:‏ «إني أرى ما لا ترون وأسمع ما لا تسعمون أطت السماء وحق لها أن تئط ما فيها موضع أربع أصابع إلا، وملك واضع جبهته ساجداً والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً، وما تلذذتم بالنساء على الفرش ولخرجتم إلى الصعدت تجأرون إلى الله تعالى» قال أبو ذر‏:‏ لوددت أني كنت شجرة تعضد أخرجه الترمذي وقال عن أبي ذر موقوفاً‏.‏

فصل

وهذ السجدة من عزائم سجود القرآن، فيسن للقارئ والمستمع أن يسجد عند قراءتها وسماعها‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏51- 60‏]‏

‏{‏وَقَالَ اللَّهُ لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ ‏(‏51‏)‏ وَلَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ ‏(‏52‏)‏ وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ ‏(‏53‏)‏ ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ ‏(‏54‏)‏ لِيَكْفُرُوا بِمَا آَتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ ‏(‏55‏)‏ وَيَجْعَلُونَ لِمَا لَا يَعْلَمُونَ نَصِيبًا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ تَاللَّهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ ‏(‏56‏)‏ وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ ‏(‏57‏)‏ وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ ‏(‏58‏)‏ يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ ‏(‏59‏)‏ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ‏(‏60‏)‏‏}‏

‏{‏وقال الله لا تتخذوا إلهين اثنين‏}‏ لما أخبر الله عز وجل في الآية المتقدمة أن كل ما في السموات والأرض خاضعون لله، منقادون لأمره عابدون له، وأنهم في ملكه وتحت قدرته، وقبضته نهى في هذه الآية عن الشرك، وعن اتخاذ إلهين اثنين فقال ‏{‏وقال الله لا تتخذوا إلهين اثنين‏}‏ قال الزجاج‏:‏ ذكر الاثنين توكيداً لقوله إلهين وقال‏:‏ صاحب النظم‏:‏ فيه تقديم وتأخير تقديره، لا تتخذوا اثنين إلهين يعني أن الاثنين لا يكون كل واحد منهما إلهاً، ولكن اتخذوا إلهاً واحداً، وهو قوله تبارك وتعالى ‏{‏إنما هو إله واحد‏}‏ لأن الإلهين لا يكونان إلا متساويين في الوجود والقدم وصفات الكمال والقدره والإرادة فصارت الاثنينية منافية للإلهية، وذلك قوله تعالى إنما هو إله واحد يعني لايجوز أن يكون في الوجود إلهان اثنان إنما هو إله واحد ‏{‏فإياي فارهبون‏}‏ يعني فخافون والرهب مخافة مع حزن واضطراب وإنما نقل الكلام من الغيبة إلى الحضور، وهو من طريق الالتفات لأنه أبلغ في الترهيب من قوله، فإياه فارهبوا فهو من بديع الكلام وبليغه وقوله فإياي يفيد الحصر، وهو أن لا يرهب الخلق إلا منه ولا يرغبون إلا إليه وإلى كرمه وفضله وإحسانه ‏{‏وله ما في السموات والأرض‏}‏ لما ثبت بالدليل الصحيح والبرهان الواضح أن إله العالم لا شريك له في الإلهية، وجب أن يكون جميع المخلوقات عبيداً له وفي ملكه وتصرفه، وتحت قدرته فذلك قوله تعالى وله ما في السموات والأرض يعني، عبيداً وملكاً ‏{‏وله الدين واصباً‏}‏ يعني وله العبادة والطاعة وإخلاص العمل دائماً ثابتاً والواصب‏:‏ الدائم‏.‏ قال ابن قتيبة‏:‏ ليس من أحد يدان له ويطاع إلا انقطع ذلك لسبب في حال الحياة أو بالموت، إلا الحق سبحانه وتعالى فإن طاعته واجبه أبداً، ولأنه المنعم على عباده المالك لهم فكانت طاعته واجبة دائماً أبداً ‏{‏أفغير الله تتقون‏}‏ يعني أنكم عرفتم أن الله واحد لا شريك له في ملكه، وعرفتم أن كل ما سواه محتاج إليه فبعد هذه المعرفة كيف تخافون غيره، وتتقون سواه فهو استفهام بمعنى التعجب وقيل هو استفهام على طريق الانكار قوله عز وجل ‏{‏وما بكم من نعمة فمن الله‏}‏ يعني من نعمة الإسلام، وصحة الأبدان وسعة الأرزاق، وكل ما أعطاكم من مال أو ولد فكل ذلك من الله تعالى، إنما هو المتفضل بها على عباده فيجب عليكم شكره على جميع إنعامه‏.‏ ولما بين في الآية المتقدمة أنه يجب على جميع العباد أن لا يخافوا إلا الله تعالى بين في هذه الآية أن جميع النعم منه لا يشكر عليها إلا إياه، لأنه هو المتفضل بها على عباده فيجب عليهم شكره عليها ‏{‏ثم إذا مسَّكم الضر‏}‏ أي الشدة والأمراض والأسقام ‏{‏فإليه تجأرون‏}‏ يعني إليه تستغيثون، وتصيحون وتضجون بالدعاء ليكشف عنكم ما نزل بكم من الضرر والشدة وأصل الجؤار هو رفع الصوت الشديد، ومنه جؤار البقر‏.‏

والمعنى أن النعم لما كانت كلها ابتداء منه فإن حصل شدة، وضر في بعض الأوقات فلا يلجأ إلا إليه ولا داعي إلا إياه ليكشفها، فإنه هو القادر على كشفها وهو قوله تعالى ‏{‏ثم إذا كشف الضر عنكم‏}‏ يعني ثم إذا أزال الشدة، والبلاء عنكم ‏{‏إذا فريق منكم‏}‏ يعني طائفة وجماعة منكم ‏{‏بربهم يشركون‏}‏ يعني أنهم يضيفون كشف الضر إلى العوائد، والأسباب ولا يضيفونه إلى الله عز وجل فهذا من جملة شركهم الذي كانوا عليه، وإنما قسمهم فريقين لأن فريق المؤمنين لا يرون كشف الضر إلا من الله تعالى ‏{‏ليكفروا بما آتيناهم‏}‏ قيل‏:‏ إن هذه اللام لام كي ويكون المعنى على هذا أنهم إنما أشركوا بالله ليجحدوا نعمه عليهم في كشف الضر عنهم وقيل‏:‏ إنها لام العاقبة والمعنى عاقبة أمرهم، هو كفرهم بما آتيناهم من النعماء وكشفنا عنهم الضر والبلاء ‏{‏فتمتعوا‏}‏ لفظه أمر والمراد منه التهديد والوعيد‏.‏ يعني‏:‏ فعيشوا في اللذة التي أنتم فيها إلى المدة التي ضربها الله لكم ‏{‏فسوف تعلمون‏}‏ يعني عاقبة أمركم إلى ماذا تصير، وهو نزول العذاب بكم‏.‏ قوله سبحانه وتعالى ‏{‏ويجعلون لما لا يعلمون نصيباً‏}‏ قيل الضمير في قوله‏:‏ لما لا يعلمون عائد إلى المشركين يعني أن المشركين لا يعلمون‏.‏ وقيل إنه عائد إلى الأصنام يعني أن الأصنام لا تعلم شيئاً البتة لأنها جماد والجماد لا علم له، ومنهم من رجح القول الأول لأن نفي العلم عن الحي حقيقة، وعن الجماد مجاز فكان عود الضمير إلى المشركين أولى، لأنه قال لما لا يعلمون فجمعهم بالواو والنون، وهو جمع لمن يعقل ومنهم من رجع القول الثاني‏.‏ قال‏:‏ لأنا إذا قلنا أنه عائد إلى المشركين احتجنا إلى إضمار فيكون المعنى‏:‏ ويجعلون يعني المشركين لما لا يعلمون أنه إله ولا إله حتى نصيباً وإذا قلنا إنه عائد إلى الأصنام لم نحتج إلى هذا الاضمار لأنها لا علم لها، ولا فيهم وقوله ‏{‏مما رزقناهم‏}‏ يعني أن المشركين جعلوا للأصنام نصيباً من حروثهم وأنعامهم وأموالهم التي رزقهم الله، وقد تقدم تفسيره في سورة الأنعام ‏{‏تالله‏}‏ أقسم بنفسه على نفسه أنه يسألهم يوم القيامة، وهو قوله تعالى ‏{‏لتسألن عما كنتم تفترون‏}‏ يعني عما كنتم تكذبون في الدنيا في قولكم، إن هذه الأصنام آلهة وإن لها نصيباً من أموالكم، وهذا التفات من الغيبة إلى الحضور، وهو من بديع الكلام وبليغه ‏{‏ويجعلون لله البنات‏}‏ هم خزاعة وكنانة قالوا‏:‏ الملائكة بنات الله وإنما أطلقوا لفظ البنات على الملائكة لاستتارهم عن العيون كالنساء، أو لدخول لفظ التأنيث في تسميتهم ‏{‏سبحانه‏}‏ نزه الله نفسه عن الولد والبنات ‏{‏ولهم ما يشتهون‏}‏ يعني‏:‏ ويجعلون لأنفسهم ما يشتهون يعني البنين ‏{‏وإذا بشر أحدهم بالأنثى‏}‏ البشارة عبارة عن الخبر السار الذي يظهر على بشرة الوجه أثر الفرح به، ولما كان ذلك الفرح والسرور يوجبان تغير بشرة الوجه كان كذلك الحزن، والغم يظهر أثره على الوجه وهو الكمودة التي تعلو الوجه، عند حصول الحزن والغم فثبت بهذا أن البشارة لفظ مشترك بين الخبر السار والخبر المحزن، فصح قوله‏:‏ وإذا بشر أحدهم بالأنثى ‏{‏ظل وجهه مسوداً‏}‏ يعني متغيراً من الغم والحزن والغيظ والكراهة التي حصلت له عند هذه البشارة، والمعنى أن هؤلاء المشركين لا يرضى بالبنت الأنثى أن تنسب إليه فكيف يرضي أن ينسبها إلى الله تعالى ففيه تبكيت لهم وتوبيخ‏.‏

وقوله سبحانه وتعالى ‏{‏وهو كظيم‏}‏ يعني أنه ظل ممتلئاً غماً وحزناً ‏{‏يتوارى من القوم من سوء ما بُشر به‏}‏ يعني أنه يختفي من ذلك القول الذي بشر به، وذلك أن العرب كانوا في الجاهلية إذا قربت ولادة زوجة أحدهم، توارى من القوم إلى أن يعلم ما ولد له فإن كان ولداً ابتهج بذلك وظهر وإن كانت أنثى حزن ولم يظهر أياماً حتى يفكر ما يصنع بها وهو قوله تعالى ‏{‏أيمسكه على هون‏}‏ يعني على هوان، وإنما ذكر الضمير في أيمسكه لأنه عائد إلى ما بشر به في قوله، وإذا بشر أحدهم ‏{‏أم يدسه في التراب‏}‏ يعني أم يخفي الذي بشر به في التراب والدس إخفاء الشيء في الشيء قال أهل التفسير‏:‏ إن مضر وخزاعة وتميماً كانوا يدفنون البنات أحياء، والسبب في ذلك إما خوف الفقر وكثر العيال ولزوم النفقة أو الحمية فيخافون عليهن من الأسر ونحوه، أو طمع غير الأكفّاء فيهن فكان الرجل من العرب في الجاهلية، إذا ولدت له بنت أراد أن يستحييها تركها حتى إذا كبرت ألبسها جبة من صوف أو شعر، وجعلها ترعى الإبل والغنم في البادية، وإذا أراد أن يقتلها تركها حتى إذا صارت سداسية، قال لأمها‏:‏ زينيها حتى أذهب بها إلى أحمائها ويكون فد حفر لها حفرة في الصحراء فإذا بلغ بها تلك الحفرة قال لها‏:‏ انظري إلى هذه البئر فإذا نظرت إليها دفعها من خلفها في تلك البئر، ثم يهيل التراب على رأسها وكان صعصعة عم الفرزدق إذا أحس بشيء من ذلك وجه بإبل إلى والد البنت حتى يحييها بذلك فقال الفرزدق يفتخر بذلك‏:‏

وعمي الذي منع الوائدات *** فأحيا الوئيد فلم يوأد

عن ابن مسعود قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «الوائدة والمؤودة في النار» أخرجه أبو داود‏.‏ وقوله تعالى ‏{‏ألا ساء ما يحكمون‏}‏ يعني بئس ما يصنعون ويقضون حيث يجعلون لله خلقهم البنات، وهم يستنكفون منهن ويجعلون لأنفسهم البنين نظيره قوله سبحانه وتعالى

‏{‏ألكم الذكر وله الأنثى تلك إذاً قسمه ضيزى‏}‏ وقيل‏:‏ معناه ألا ساء ما يحكمون في وأد البنات ‏{‏للذين لا يؤمنون بالآخرة مثل السوء‏}‏ يعني صفة السوء من احتياجاتهم إلى الولد الذكر وكراهتهم الإناث وقتلهن خوف الفقر ‏{‏ولله المثل الأعلى‏}‏ أي الصفة العليا المقدسة، وهي أن له التوحيد وأنه المنزه عن الولد وأنه لا إله إلا هو وأن له جميع صفات الجلال والكمال من العلم والقدرة والبقاء السرمدي، وغير ذلك من الصفات التي وصف الله بها نفسه‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ مثل السوء النار والمثل الأعلى شهادة أن لا إله إلا الله ‏{‏وهو العزيز‏}‏ أي الممتنع في كبريائه وجلاله ‏{‏الحكيم‏}‏ يعني في جميع أفعاله‏.‏